للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

-[فقه الحديث]-

حاول بعض العلماء صرف نسبة الإيمان إلى أهل اليمن عن ظاهرها، حيث إن مبدأ الإيمان من مكة، ثم من المدينة - حرسهما الله تعالى- وقد تكلفوا لهذا الصرف تكلفات بعيدة منها:

أن المراد من اليمن مكة، فإنه يقال: إن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن.

ومنها: أن المراد من اليمن مكة والمدينة، فإنه يروى في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو بتبوك، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد مكة والمدينة، فقال: الإيمان يمان، ونسب مكة والمدينة إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا: الركن اليماني -وهو بمكة- لكونه ناحية اليمن.

ومنها أن المراد بذلك الأنصار، لأنهم يمانيون في الأصل، فنسب الإيمان إليهم، لكونهم أنصاره.

والحق أن هذا التكلف بعيد عن الصواب، وبعيد عن ألفاظ الحديث في مجموع طرقه ورواياته، إذ من ألفاظه "آتاكم أهل اليمن" و"جاء أهل اليمن" والكلام لأهل مكة المهاجرين ولأهل المدينة الأنصار، فالآتي إذن غيرهم، ثم إن إشاراته صلى الله عليه وسلم إلى جهة اليمن تدل على أن المراد أهل اليمن حينئذ، لا الذين كان أصلهم منها.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصاف تفضي إلى الإيمان [ألين وأضعف قلوبا وأرق أفئدة] ورتب على هذه الأوصاف "الإيمان يمان".

ثم إنه ليس هناك مانع أصلا من إجراء الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة، فأهل اليمن سارعوا إلى قبول الإيمان، وقبلوا البشرى التي لم يقبلها بنو تميم. فقد روى البخاري في أول كتاب بدء الخلق أن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: جاء نفر من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني تميم أبشروا [أي بالجنة إذا أسلمتم] فقالوا: بشرتنا فأعطنا (آثروا الدنيا وطلبوا عطيته من الغنائم) فتغير وجهه، فجاء أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله [جئناك لنسألك ونتفقه في الدين].

كان هذا حال الوافدين من اليمن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: سلامة قلب، وقوة إيمان، فكانت نسبة الإيمان إليهم إشعارا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثامنة "والإيمان في أهل الحجاز".

ثم إن هذا الحكم لا ينسحب على أهل اليمن في جميع العصور، فإن اللفظ لا يقتضيه، بل المراد به الموجودون منهم حين الخطاب.

وفي الحديث إشارة إلى شدة كفر المجوس، لأن مملكة الفرس ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القوة والتكبر والتجبر، وبلغ بملكهم الغرور أن مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>