للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

استغنت نفسه عظم في داخله أكثر من الغني الذي هو فقير النفس، فإن فقر نفسه يورطه في كثير من رذائل الأمور، يبيع آخرته بدنياه، بل بدنيا غيره، فيكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وهو يملك المال، وأذل من كل ذليل وإن امتلأت خزائنه.

ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة الفقر فالذي فعل الفقر

أي الذي فعله هو الفقر.

وسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم "اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء؟ وذلك لأن كثيراً. من الأغنياء يصابون بالشح، فيمسكون عن الإنفاق في وجوه البر، ويخافون الفقر، فيكثرون من المال، ويقلون من ثواب الآخرة، فكان أغنياء الدنيا قلة في الجنة.

سمع الصحابة كل هذه النصوص، ففهمها بعضهم على أنها ذم للمال وللغنى، وأنها إنذار بخطر التكالب على الدنيا وزينتها، فآثر الزهد والتقشف وشظف العيش، من هؤلاء مصعب بن عمير، استشهد يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة مرقعة، إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدت رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه، وأن يجعلوا على رجليه الإذخر، هذا الفتى كان من أنعم فتيان مكة، غنى ونعومة ومتعة وهناء، آثر الإسلام وترك كل هذا النعيم، يقول علي رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد إذ دخل علينا مصعب بن عمير، وما عليه إلا بردة له، مرقوعة بفروة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه، للذي كان فيه من النعيم، والذي هو فيه اليوم" أخرجه الترمذي.

وربما كان كثير من الصحابة زاهدين بالضرورة وواقع الأمر قبل الفتوح، فقراء لا عن قدرة على الغنى، لكن بعضهم بعد الفتوح، وبعد اتساع الأرزاق وسهولتها آثر الزهد على الغنى، طواعية، وأعرض عن المال وادخاره، وإن جاءه أنفقه في وجوه الخير من أمامه وعن يمينه وشماله ومن خلفه، فهذه عائشة -رضي الله عنها- جاءها عطاء عمر رضي الله عنه في غرارة، عشرة آلاف، فقالت ما هذا؟ قالوا: عطاؤك، بعث لك به عمر، قالت: نقود في غرارة كالتمر؟ قالوا: نعم. قالت لجاريتها: صبيه على الأرض، وأخذت تقبض بيدها القبضة وتبعث بها إلى آل فلان، والقبضة إلى فلانة، حتى لم يبق منه شيء، فقالت لها جاريتها: ما أبقيت لنا ما نفطر به ونحن صائمتان؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت.

ومن هؤلاء الزاهدين اختيار عمر رضي الله عنه، وزهده وهو خليفة المسلمين يضرب به المثل، وأبو ذر رضي الله عنه ورأيه في كنز المال مشهور، وقصته مع معاوية معروفة، ومن هؤلاء أيضاً كثير من أهل الصفة.

الفريق الثاني من الصحابة فهم من هذه النصوص التحذير من خطر جمع المال من غير حله، والتحذير من خطر إنفاقه في غير وجهه، واستشعر قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: ٣٢]؟ فتبسط في بعض المباحات، من كثرة النساء والسراري والخدم والملابس والمساكن والأطعمة والضياع، مع القيام بحق الله تعالى فيها، وعدم التغالي في الانشغال بها، كابن عمر رضي الله عنه، ومنهم من استكثر من المال

<<  <  ج: ص:  >  >>