للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فالذي يهاجر منها للمدينة إنما يهاجر لطلب العلم أو الجهاد أو نحو ذلك، لا للفرار بدينه، بخلاف ما قبل الفتح، وكأنه احترز بذلك عن غيرهم من مشيخة قريش، ممن أقام بمكة، ولم يهاجر أصلاً أو أراد من مهاجرة الفتح مسلمة الفتح.

قال النووي: إنا رتبهم هكذا على حسب فضائلهم. اهـ أي ترتيباً تنازلياً، الأفضل أولاً، ثم الأقل منه فضلاً، ثم الأقل منه فضلاً، فليس إجماع مسلمة الفتح على الرجوع أساس اتخاذه القرار، فقد أشار به بعض كل من الفريقين الأولين، وبالمجموع تكون الأكثرية في جانب الرجوع، على أن مثل عمر يتخذ الاستشارة لإضاءة الطريق، واستطهار الأمر، لا للمشاركة في اتخاذ القرار، وهذا هو ظاهر قوله تعالى {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: ١٥٩] وقوله تعالى {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: ١١٦] فعمر كان مقتنعاً منذ اللحظة الأولى بالرجوع، لكنه أراد أن لا ينفرد ظاهراً بالقرار، لترتاح نفوس الناس، ولذا كان نقاشه الآتي مع أبي عبيدة إنما يستند إلى العقل والحكمة والدليل، لا على كثرة الموافقين على الرجوع، فلسنا مع القاضي عياض، إذ يقول: وكان رجوع عمر رضي الله عنه لرجحان طرف الرجوع، لكثرة القائلين به، وأنه أحوط، ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح، لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع، وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأي مشيخة قريش، فكثروا القائلين به، مع ما لهم من السن، والخبرة، وكثرة التجارب، وسداد الرأي. اهـ

ولسنا مع الرأي الذي حكاه القاضي عياض: إذ يقول: وقيل: إنما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف، لما في الرواية الثامنة، قالوا ولأن عمر لم يكن ليرجع لرأي دون رأي. اهـ وهذا الرأي فاسد من وجوه:

الأول: أن قرار العودة ونداء عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، كان سابقاً على مجيء عبد الرحمن بن عوف إذ بات ليلة، وهو على ذلك، وقولهم: إن المراد من نداء عمر إني مصبح مسافر إلى الشام وإلى الوجهة التي خرجت من المدينة نحوها، وهذا القول تأويل فاسد، ومذهب ضعيف، كما قال النووي.

الثاني: أن المناقشة مع أبي عبيدة كانت بعد القرار، ولو كان حديث عبد الرحمن بن عوف سابقاً عليها لما كانت المناقشة، وحسم الحديث الموقف.

الثالث: أن وقع الحديث على عمر هو أن حمد الله أن اتفق الحديث مع القرار، وشكر الله على موافقة اجتهاده، واجتهاد معظم الصحابة لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال النووي: وأما قول سالم بن عبد الله: "إن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن بن عوف" فيحتمل أن سالماً لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له، ويحتمل أنه أراد أنه لم يرجع إلا بعد حديث عبد الرحمن. والله أعلم. اهـ

ويرى الحافظ ابن حجر أن حصر سالم لسبب رجوع عمر في الحديث، لم يرد به نفي السبب الأول، وهو اجتهاد عمر، وإنما مراده أنه لما سمع الخبر رجح عنده ما كان عزم عليه،

<<  <  ج: ص:  >  >>