للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وتوكل" يستعد صلى الله عليه وسلم للهجرة، ويخفي أمرها، ويخرج بليل، ويختبئ في الغار، في الوقت الذي يقول فيه "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

لقد جاء الإسلام والناس على عنصر واحد، هو عنصر الأسباب المادية، والمتطرف إذا أريد له الوسطية شد إلى الطرف الآخر، ليعود برغبة منه إلى الوسط، وهذا هو ما وقع في قصتنا.

كان صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا وخمسين سنة، حوله جبال وصحراء، وهاجر إلى المدينة، بلاد نخل وزروع، وبينما هو يمشي في طرقاتها بين النخيل، ومعه بعض أصحابه، رأى رجالا تسلقوا النخل، حتى وصلوا إلى سعفها، ورأى شيئا في أيديهم، يتحركون به، ولم يتبين ماذا يعملون، فسأل من معه: ماذا يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحون النخل. لأن النخل في موسم معين يخرج طلعا، قوالب بداخلها فروع بيضاء على جانبيها بروز الثمر، ومليئة بما يشبه الدقيق، يخرج هذا في النخل الذكر ولا يثمر، ويخرج في الأنثى وهو أصل التمر، لكن بشرط أن يوضع شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يربطهم بالقضاء والقدر، فقال: لا أظن أن ذلك ينفعهم إلا بإرادة الله وقدرته، وأظن أنهم لو لم يفعلوا ذلك واعتمدوا على الله وسألوه لصلح، وكان من الممكن أن تحمل الريح طلع الذكر إلى الأنثى، وتقوم مقامهم، كما يحصل في كثير من الفواكه، مصداقا لقوله تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح} [الحجر: ٢٢] لكن الله تعالى أراد أن يربط المسببات بالأسباب في هذه القصة، فلما سمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يلقحوا، خرج البلح شيصا، فلما رآه كذلك صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما لتمركم هذا العام خرج شيصا؟ قالوا: لأننا لم نلقحه، استجابة لقولك كذا وكذا، قال: إنما قلت لكم ذلك من عند نفسي ظنا، ولست في ذلك مبلغا عن الله، فإذا أمرتكم بأمر مبلغا فالتزموه، وإذا أمرتكم بأمر من نفسي فأنتم وشأنكم، فأنتم أعلم بأمور دنياكم، وما دام في ذلك خير لكم فافعلوه.

فعادوا إلى تلقيح نخلهم، وعادت المدينة خير بلد، وتمرها خير تمر.

-[المباحث العربية]-

(مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤس النخل) مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، أي على كل نخلة رجل، والمراد من رأس النخلة أعلاها.

(فقال: ما يصنع هؤلاء)؟ أي سأل طلحة ومن معه عما يفعلون؟ وقد رآهم لا يقطعون سعفا كما يعهد، وكان ذلك أول قدومه المدينة، التي هي ذات نخل، ولم تكن مكة ذات نخل، ففي الرواية الثانية "قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل" فسر ذلك بقوله "يقولون: يلقحون النخل" وليس المراد أنه رأى ذلك في طريق قدومه، بل المراد أنه رأى ذلك في أوائل وصوله، حين خرج إلى المزارع، و"يأبرون" بسكون الهمزة، وكسر الباء وضمها، يقال: أبر يأبر، ويأبر، كبذر يبذر ويبذر، ويقال: أبر بتشديد الباء يؤبر تأبيرا، والمراد به التلقيح، ومعناه إدخال شيء من طلع الذكر، فرع أو دقيق، في طلع الأنثى، فتعلق الأنثى، ويصلح ثمرها، بإذن الله تعالى، "فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى، فيلقح".

<<  <  ج: ص:  >  >>