للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله: "ذم الدنيا" أقول: ينبغي أن تكون على حذف، والمراد: ذم من آثرها على الأخرى، وليس في أحاديث الباب إلا ما يدل على هذا، فالدنيا مزرعة الآخرة، وما أحسن ما قاله (١) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - وقد سمع رجلاً يذم الدنيا فقال: أيها الذام للدنيا: أتغتر (٢) بالدنيا ثم تذمها!! أنت المجرِّم عليها أم هي المتجرِّمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلاء، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم علَّلت [١١٥ ب] بكفيك؟ ومرضت بيديك تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء غداة لا يغني عنهم دواؤك، ولا يجدي عليهم بكاؤك، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثَّلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فَهِمَ عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها، ودار موعظة لمن اتَّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا بها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها؟ وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها، ونعتت نفسها وأهلها، فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور! راحت بعافية، وابتكرت بفيجعة ترغيباً وترهيباً وتخويفاً وتحذيراً، فذمها رجال غداة الندامة, وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا. انتهى.

وهو كلام يأخذ بأزمة القلوب، ويعرفك أن الدنيا ينال بها المرغوب والمرهوب، وما أحسن ترجمة البخاري (٣) لحديث الباب حيث قال: (باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها) انتهى.


(١) انظر نصاً في "نهج البلاغة" (ص ٥٩٠ - ٥٩١ رقم ١٣١).
(٢) في "نهج البلاغة" زيادة: (المغترُّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها".
(٣) في صحيحه (٩/ ٢٤٣ الباب رقم ٧ مع الفتح).

<<  <  ج: ص:  >  >>