للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلتُ: الفقهاءُ يتكلمونَ في الوقوع، ولم يقعْ في الشرعِ تكليفُ المُكْرَهِ، والمتكلمونَ يتكلمونَ في الجَوازِ والامتناعِ العَقْلِىِّ.

فعندَ الأشعريَّةِ تكليفُه جائزٌ غيرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وإنْ لمْ يقعْ شرعًا.

وعند المعتزلةِ تكليفُهُ غيرُ جائزٍ عَقْلًا ولا شَرْعًا.

فإن قُلْتَ: هذا الخطابُ (١) يبطلُ باستدلالِهم على تكليفِه بانِعقادِ الإجماعِ على تَأْثيمِه عندَ الإكراه على القتل، وهذا يدلُّ على أنهم يريدونَ أَنَّ تكليفَه واقعٌ شرعًا، وأنهم يتكلمون في الوُقوع الشرعيِّ، لا في الجوازِ العقلىِّ.

قلنا: قد أجابَ بعضُ المحققين من مُتَأَخِّري الأشعرية لمّا اختارَ مذهبَ المعتزلةِ هُنا، فقال: إنما أثم لأنه آثرَ نفسَه على غيرهِ، لا من حيثُ إنه مكرَهٌ، فهو إنما أُكْرِهَ على القَتْل، ولم يُكْرَهْ على إيثارِ نفسِه على غيرِها، فجهةُ الإيثارِ لا إكراهَ فيها، فيأثم من جِهَتِها، وجهةُ الإكراهِ لا إثمَ فيها، فهو إنَّما خُيِّرَ بين إزهاقِ روح غيرِه، وإلقاءِ نفسهِ في التَّهْلُكَةِ، فأصلُ القتلِ لا عقابَ فيه، والقَتْلُ المخصوصُ بغيره فيه العقابُ؛ لتضمُّنهِ وجودَ الاختيارِ وإيثارَ نفسِه على غيرِه.

قال: وهذا تحقيقٌ حسنٌ، وهو كما قالَ؛ فإنه لو كان تأثيمُه لأجلِ القتلِ فقطْ، لما اختلفَ الفُقهاءُ في وُجوبِ القِصاص عليه، ولما طَلُقَتْ إحدى الزوجتين إذا عَيَّنَها بالطَّلاقِ عندَ الإكراهِ على طَلاقِ إحْدى الزوجتين.

وقد أدركَ الفقهاءُ هذا المَدْرَكَ في مواضِعَ كثيرةٍ؛ كمثلِ ما حكموا بِعَدِمِ


(١) في "ب": "الجواب".

<<  <  ج: ص:  >  >>