للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إذ كانت همته مقصورة على الدنيا، ولكل امرىء ما نوى، فيكون محرومًا من ثواب الآخرة بالكلية، وقرأ الجمهور (١): {نَزِدْ} و {نُؤْتِهِ} بالنون فيهما، وابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري، كلاهما عن أبي عمرو بالياء فيهما، وقرأ سلام: {نؤتهُ منها} بضم الهاء، وهي لغة الحجاز، ذكره في "البحر المحيط". وقال الإمام الراغب: إن الإنسان في دنياه حارث، وعمله حرثه، ودنياه محرثه، ووقت الموت وقت حصاده، والآخرة بيدره، ولا يحصد إلا ما زرعه، ولا يكيل إلا ما حصده.

حكي: أن رجلًا ببلخ، أمر عبده أن يزرع حنطة، فزرع شعيرًا، فرآه وقت الحصاد وسأله، فقال العبد: زرعت شعيرًا على ظن أن ينبت حنطة، فقال مولاه: يا أحمق، هل رأيت أحدًا زرع شعيرًا فحصد حنطة، فقال العبد: فكيف تعصي أنت، وترجو رحمته، وتغتر بالأماني، ولا تعمل العمل الصالح.

وكما أن في البيدر مكيالًا، وموازين وأمناء وحفاظًا وشهودًا، كذلك في الآخرة مثل ذلك، وكما أن للبيدر تذرية وتمييزًا بين النقاوة والحطام، كذلك في الآخرة تمييزٌ بين الحسنى والآثام، فمن عمل لآخرته بورك له في كيله ووزنه، وجعل له منه زادًا لا بد، ومن عمل لدنياه خاب سعيه وبطل عمله، فأعمال الدنيا كشجرة الخلاف، بل كالدقلي والحنظل في الربيع، يرى غض الأوراق، حتى إذا جاء حين الحصاد لم ينل طائلًا، وإذا حضر مجتناه في البيدر، لم يفد نائلًا. ومثل أعمال الآخرة كشجرة الكرم والنخل المستقبح المنظر في الشتاء، فإذا حان وقت القطاف والاجتناء أفادتك زادًا، وادخرت عدةً وعتادًا.

ولما كانت زهرات الدنيا رائقة الظاهر، خبيثة الباطن، نهى الله تعالى عن الاغترار بها، فقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)} فالقذر قذر، وإن كان في ظرف من الذهب، فالعاقل لا يتناوله.

وحاصل معنى الآية (٢): من كان يريد بأعماله، وكسبه ثواب الآخرة، نوفقه


(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.