للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يقال: أغرب عنّي، وتنح، ووراءك.

وقيل: هو من جملة ما قالوه؛ أي؛ هو مجنون، وقد ازدجرته الجن، وتخبطته؛ أي: أفسدته، وتصرفت فيه، وذهبت بلبه، وطارت بقلبه. والأول أولى. وفيه إشارة إلى أن كل داعي حق لا بد وأن يكذب لكثرة أهل البطلان، وغلبة أهل البدع والأهواء والطغيان. وذلك في كل عصر وزمان؛ أي: فكذبوا عبدنا نوحًا، ونسبوه إلى الجنون، وزجروه، وتوعدوه لئن لم ينته .. ليكونن من المرجومين.

١٠ - ثم بين أنه عيل بهم صبرًا، وضاق بهم ذرعًا، فقال: {فَدَعَا رَبَّهُ}؛ أي: لما زجروا نوحًا عند الدعوة، وبلغ مدة التبليغ تسع مئة وخمسين سنة دعا ربه {أَنِّي}؛ أي: بأني {مَغْلُوبٌ} من جهة قومي، ما لي قدرة على الانتقام منهم {فَانْتَصِر}؛ أي: فانتقم لي منهم. وذلك بعد تقرّر يأسه منهم.

فقد روي: أنَّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه، حتى يخر مغشيًا، فيفيق، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". فلما أذن الله له في الدعاء للإهلاك دعا. فأجيب كما قال في الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)}.

وقرأ الجمهور (١): {أَنِّي} بفتح الهمزة؛ أي: بأنّي. وقرأ ابن أبي إسحاق، والأعمش بكسرة الهمزة، ورويت هذه القراءة عن عاصم بتقدير إضمار القول؛ أي: فقال إنيّ.

والمعنى (٢): أي فدعا نوح ربه قائلًا: إن قومي قد غلبوني لتمردهم وعتوهم، ولا طاقة لي بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.

وقصارى ذلك: انتصر لك ولدينك، فإني قد غلبت، وعجزت عن الانتصار لهما.

١١ - ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه، وعاقبهم بقوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ}؛ أي: طرق السماء {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}؛ أي: بماء كثير منصب انصبابًا شديدًا يقال: انهمر الماء إذا انسكب، وسال؛ أي: منصب انصبابًا شديدًا كما ينصب من أفواه القرب لم ينقطع أربعين يومًا. وكان مثل الثلج بياضًا وبردًا. وهو تمثيل لكثرة الأمطار،


(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.