للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

لنقضهم العهد والميثاق كما جاء في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.

ثم بين صفات أتباع عيسى، فقال: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا} المؤمنين {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}؛ أي: اتبعوا عيسى في دينه كالحواريين وأتباعهم. {رَأْفَةً}؛ أي: لينًا. وقرىء {رآفة} بوزن فعالة، كما في "البيضاوي". {وَرَحْمَةً}؛ أي: شفقة؛ أي (١): جعلنا في قلوبهم رأفة؛ أي: أشد رقة ولين على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم، والاتباع لهم ورحمة؛ أي: رقة وعطفًا وشفقة على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم والاتباع لهم، أي: يعطفون على جميع الناس من وافقهم في الدين، ومن لم يوافقهم، كما كان الصحابة رضي الله عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة، فهم أعزة على الكافرين. قيل: أمروا في الإنجيل بالصفح، والإعراض عن مكافأة الناس على الأذى. وقيل: لهم من لطم خدك الأيمن فوله خدك الأيسر، ومن سلب ردائك فاعطه قميصك، ولم يكن لهم قصاص على جناية في نفس أو طرف. فاتبعوا هذه الأوامر، وأطاعوا الله تعالى، وكانوا متوادين ومتراحمين. ووصفوا بالرحمة خلاف اليهود الذين وصفوا بالقسوة.

وقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب (٢) على الاشتغال بفعل مضمر يفسره المذكور بعده؛ أي: وابتدع أتباع عيسى رهبانية {ابْتَدَعُوهَا}؛ أي: اخترعوها من قبل أنفسهم، وباختيارهم لا بأمر من الله، فيكون الكلام مستأنفًا؛ أي: حملوا أنفسهم على العمل بها. والرهبانية: المبالغة في العبادة بمواصلة الصوم، ولبس المسوح، وترك أكل اللحم، والامتناع عن المطعم والمشرب والملبس والمنكح، والتعبد في الغيران، والتخلي في الصوامع. ومعناها: ابتدعوا الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بفتح الراء: وهو الخائف، فإن الرهبة مخافة مع تحزن واضطراب كما في "المفردات"، وهو فعلان من رهب كخشيان من خشي. وقيل: معطوفة على ما قبلها، وجملة {ابْتَدَعُوهَا} صفة لها؛ أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة مخترعة من عندهم؛ أي: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية، واستحداثها لينجوا من


(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.