للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والحكمة في جعله أولًا فقيرًا، ثم إغنائه: أنه لو كان متمولًا من أول الأمر .. لكان يسبق إلى بعض الأوهام أنه إنما وجد العز والغلبة بسبب المال، فلما علا كل العلو على الأغنياء والملوك .. عُلم أنه كان علوه من جهة الحق سبحانه، وقيل معناه: فأغنى قلبك وقنعك بما أعطاك.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" ولذا قال الراغب: معنى فأغناك: أي: أزال عنك فقر النفس وجعل لك الغنى الأكبر، وهو المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنى غنى النفس" ثم المراد (١) من تعداد هذه النعم ليس الامتنان، بل تقوية قلبه - صلى الله عليه وسلم - للاطمئنان بعد التوديع، وقرأ الجمهور (٢): {عَائِلًا}؛ أي: فقيرًا.

قال جرير:

اللهُ نَزَّلَ فيْ الْكِتَابِ فَرِيْضَةً ... لابْنِ السَّبِيْلِ وَللْفَقِيْرِ الْعَائِلِ

كرره لاختلاف اللفظ، وقرأ محمد بن السميفع واليماني: {عَيَّلًا} بفتح العين وتشديد الياء المكسورة على وزان سيد، ومنه قول أحيحة بن الجلاح:

وَمَا يَدْرِيْ الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِيْ الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيْلُ

والمعنى (٣): أي إنك كنت فقيرًا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناك بما أجراه لك من الربح في التجارة، وبما وهبته لك خديجة من مالها.

وخلاصة ما تقدم: أن من آواك في يتمك وهداك من ضلالك، وأغناك من فقرك لا يتركك في مستقبل أمرك،

٩ - وبعد أن بين نعمه السابقة، أوصاه باليتامى والفقراء شكرًا على هذه النعم، وأداء لحقها، فقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ} منصوب بقوله: {فَلَا تَقْهَر} فالفاء الأولى للإفصاح، والثانية لربط جواب {أما} الشرطية، كما بيَّنَّاهما في شروحنا على الآجرومية؛ أي: إذا عرفت ما بينّاه لك من النعم المذكورة، وأردت القيام بشكرها، فأقول لك: لا تقهر اليتيم؛ أي: لا تذلِله ولا تغلبه على ماله وحقه بوجه من وجوه القهر كائنًا ما كان، قال مجاهد: لا تحرك


(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.