للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أي: لعظةً عظيمة دالة على باهر قدرتنا، إذا تفكرتم فيها، والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة، ومنه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}، وجملة قوله: {نُسْقِيكُمْ} مستأنفة مسوقة لبيان تلك العبرة؛ أي: وتلك العبرة أنَّنا نسقيكم {مِمَّا فِي بُطُونِهِ}؛ أي: من بعض ما في بطون المذكور من الأنعام، فمن للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونه، والضمير يعود إلى المذكور؛ أي: في بطون ما ذكرنا من الأنعام، وفي سورة المؤمنين رجع إلى لفظ الأنعام، وهنا إلى المذكور، وقال المبرد (١): هذا فاشٍ في القرآن كثيرٌ مثل قوله للشمس: {هَذَا رَبِّي} يعني هذا الشيء الطالع، وكقوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) وقال ابن العربي: يجوز التذكير في الأنعام باعتبار معنى الجمع، والتأنيث باعتبار معنى الجماعة، فذكر الضمير هنا نظرًا إلى معنى الجمع، وأنثه في سورة المؤمنون نظرًا إلى معنى الجماعة، وقيل غير ذلك.

وقرأ ابن مسعود (٢) بخلاف عنه، والحسن وزيد بن علي وابن عامر وأبو بكر ونافع وأهل المدينة: {نَسْقِيكم} هنا وفي: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)} بفتح النون، مضارع سقى يسقي، وهي لغة قريش، وباقي السبعة بضمها، من أسقى يسقي وهي لغة حمير، وجميع القراء على هاتين القراءتين، وقرأ أبو جعفر: {يُسْقِيكم} بياء مضمومة، والضمير عائد على الله، وقرأت فرقة بالتاء مفتوحة، منهم أبو جعفر، على أن الضمير راجع إلى الأنعام، وهاتان القراءتان ضعيفتان، وقال الزجاج (٣): سقيته وأسقيته بمعنى واحد، وفي "الأسئلة المقحمة": يقال أسقيته إذا جعلت له سقيًا دائمًا، وسقيته إذا أعطيته شربةً، وقيل: إذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقي .. يقال سقيته، وإذا كان بمجرد عرضه عليه وتهيئته له .. قيل: أسقاه، وقوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} {مِنْ} ابتدائية متعلقة بـ {نُسقيكم} لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء، والفرث وكذا الثفل بضم الثاء المثلثة وسكون الفاء فضالة العلف وووثه في الكرش، والكرش - وزان كبد - للحيوان بمنزلة


(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.