للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)} ولذا ناداه بأمه، إذ كانت الرحمة للأم أوفر، ولذا صبرت على مباشرة التربية، وقرأ (١) عيسى بن سليمان الحجازي {بلحيتي} بفتح اللام، وهي لغة أهل الحجاز، قال صاحب "الكشاف": كان موسى (٢) - عليه السلام - رجلًا شديدًا، مجبولًا على الحدة والخشونة والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلًا من دون الله، بعدما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبًا لله، واستنكافًا وحميةً، وعنف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضًا على شعر رأسه - وكان أفرع - وعلى شعر وجهه يجره إليه. اهـ.

ثم بيَّن علة هذا النهي بأني لست عاصيًا أمرك، ولا مقصرًا في المصلحة، بل {إِنِّي خَشِيتُ} وخفت لو قاتلت بعضهم ببعض، وتفرقوا {أَنْ تَقُول} لي {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} برأيك، وأراد بالتفريق: ما يستتبعه القتال من تفريق لا يُرجى بعده الاجتماع؛ أي: خشيت إن فارقتهم واتبعتك، أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا، فتقول أوقعت الفرق فيما بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}؛ أي: لم تحفظ وصيتي لك في حسن الخلافة عليهم، ويريد به قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} فإن الإصلاح: ضم النشر وحفظ جماعات الناس، والمداراة بهم إلى أن ترجع إليهم، وترى فيهم ما ترى، فتكون أنت المتدارك للأمر بنفسك، المتلاقي برأيك، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة، ونحن على القلة والضعف، كما يُعرف من قوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} وعلى هذا التفسير يكون قوله {وَلَمْ تَرْقُبْ} معطوفًا على {فَرَّقْتَ} والياء في {قَوْلِي} واقعة على موسى؛ أي: وخشيت أن تقول لي إنك: لم ترقب قولي لك: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين، كالسمين، والبيضاوي، والخازن، والخطيب، ويحتمل أن يكون قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ} معطوفًا على {أَنْ تَقُولَ} فتكون الياء في {قَوْلِي} واقعةً على هارون؛ أي: وخشيت عدم ترقبك وانتظارك لقولي، حتى تتأمل فيه، وتفهم منه عذري اهـ


(١) البحر المحيط.
(٢) الكشاف.