للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} وكرر (١) {قَالَتْ}؛ للإيذان بغاية اعتنائها بما قالت؛ أي: قالت: يا أيها الأشراف أفتوني في أمري؛ أي: أجيبوني في الذي ذكرت لكم بما يقتضيه الحزم، واذكروا ما تستصيبون فيه، وأشيروا علي وبينوا لي الصواب فيه، وعبرت عن جواب المشورة بالفتوى الذي هو الجواب في الحوادث المشكلة غالبًا، إشعارًا بأنهم قادرون على حل المشكلات النازلة، وليكون في ذلك حل لما أشكل عليها من الأمر. قال بعضهم: الفتوى من الفتى؛ وهو الشاب القوي، وسميت الفتوى بذلك؛ لأن المفتي؛ أي: المجيب الحاكم بما هو صواب يقوي السائل في جواب الحادثة.

ثم زادت في التأدب لهم، واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، فقالت: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا}؛ أي: فاصلة ومنفذة أمرًا من الأمور {حَتَّى تَشْهَدُونِ}؛ أي: حتى تحضروا عندي، وتشيروا علي؛ أي: لا أقطع أمرًا إلا بمحضركم وبموجب آرائكم؛ أي: عادتي معكم أن لا أفعل أمرًا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم.

وفيه استمالة لقلوبهم (٢)؛ لئلا يخالفوها في الرأي والتدبير، وفيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يكون مستبدًا برأيه، ويكون مشاورًا في جميع ما سنح له من الأمور، لا سيما الملوك يجب أن يكون لهم قوم من أهل الرأي والبصيرة، فلا يقطعون أمرًا إلا بمشاورتهم. والمعنى: أي (٣): قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علي في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلى، فإني لا أقضي فيه برأي حتى تشهدوني فأشاوركم فيه.

وفي قولها هذا دلالة على إجلالهم، وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم


(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.