للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وهو لا يردُّ عليها جوابًا، حتى قالت: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعنا، فرضِيَتْ، ومضَى، حتى إذا استوى على ثنية كداء، أقبل على الوادي، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ...} إلى آخر الآية، وإنما (١) دعا إبراهيم له بالأمن؛ لأنه ليس فيه زرع، ولا ثمرٌ، فإذا لم يكن آمنًا، لم يجلب إليه شيءٌ من النَّواحي، فيتعذَّر المقام فيه، فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم، فجعله بلدًا آمنًا لا يُسْفَك فيه دم إنسان، ولا يظلم أحد، ولا يصاد صيده، ولا يُخْتَلَى خلاه، فما قصده جَبَّارٌ إلّا قصَمَه الله تعالى، كما فعل بأصحاب الفيل، وغيرهم من الجبابرة.

فإن قُلْتَ: ما الفائدة في قول إبراهيم {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} مع قوله تعالى أوّلًا: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}؟

قلت: المراد من الأمن المذكور: أوّلًا الأمن من الأعداء، والخسف، والمسخ، ومن المذكور في دعاء إبراهيم: الأمن من القحط، والجوع، وقيل: معنى بلدًا آمنًا؛ أي: كثير الخصب، يؤمن فيه من الجوع، والقحط، فإن الدنيا إذا طلبت ليُتقوَّى على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمنًا، وحصل فيه الخصب تفرَّغ أهله لطاعة الله، وأيضًا إنَّ الخصب مما يدعو الناس إلى تلك البلدة، فهو سبب اتصاله في الطاعة.

والمعنى (٢): أي قال إبراهيم: ربّ اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة! وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنًا في نفسه من الجبابرة، وغيرهم، أن يسلَّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان من خسف، وزلزال، وغرق، ونحو ذلك ممَّا يُنْبِىءُ عن سخط الله، ومثلاته التي تصيب سائر البلاد، وقد استجاب الله دعاءه، فلم يقصده أحدٌ بسوءٍ إلا قصم ظهره، ومن تعدَّى عليه لم يطل زمن تعدِّيه، بل يكون تعدّيًا عارضًا ثمَّ يزول.


(١) روح البيان.
(٢) العمدة.