للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن بَيْن تِلْكَ الشروط: أن لا يعمل الرَّاوِي بخلاف روايته (١)، ووافقهم عَلَى هَذَا بَعْض المالكية (٢)؛ لأنَّهُ ما عمل بخلافه إلا وَقَدْ تيقن من طريق صحيحة نسخه، أو صرفه عن ظاهره بتأويله أو تخصيصه، سواء كَانَ هَذَا من معاينة حال رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم -، أو سَمَاع نصٍ جلي صريح مِنْهُ، أو علم إجماع الصَّحَابَة عَلَى خلاف مضمونه، فأوجب هَذَا عَلَيْهِ القول بمقتضى المتأخر من حَيْثُ علمه (٣).

وفصّل أبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية، فرأى أن الخبر المروي عَلَى هَذِهِ الصورة لا يخلو عن حالتين:

الأولى: أن يَكُوْن الخبر محتملاً للتأويل، فعند ذَلِكَ لا يؤخذ بتأويل الصَّحَابِيّ فمن دونه، ويبقى الخبر عَلَى ظاهره معمولاً بمنطوقه، إلاّ عِنْدَ قيام دلالة عَلَى وجوب صرفه إِلَى ما يؤوله الرَّاوِي.

الثانية: أن لا يحتمل الخبر تأويلاً، ولا يمكن أن يَكُوْن لفظ الْحَدِيْث تعبيراً من الصَّحَابِيّ، فهذا الَّذِي يتوقف في قبوله والعمل بِهِ (٤).

وجمهور الفقهاء والأصوليين عَلَى خلافه، إذ لا يلزم من مخالفة الصَّحَابِيّ للحديث الَّذِي يرويه، أن يَكُوْن قَد اطَّلع عَلَى ناسخ لَهُ، أو بدا لَهُ وجه تأويله (٥)، ثُمَّ إن المقتضي للحكم هُوَ ظاهر اللفظ في الخبر، وَهُوَ قائم، وما عارضه من فعل الرَّاوِي لا يصلح أن يَكُوْن معارضاً؛ وذلك لأن احتمال تمسكه بِمَا ظنه دليلاً - مَعَ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - قائم، وتَدَيّن الصَّحَابِيّ وإحسان الظن بِهِ، يمنعه من تعمد الخطأ، أما السهو والغلط فممكن عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ ممكن عَلَى غيره (٦).

وقول الصَّحَابِيّ - مهما كَانَتْ مكانته - لا تقاوم الوقوف بوجه النص، لا سيما إذا كَانَ النص لا يحتمل التأويل، وإنما يعدُّ هَذَا من اجتهادات ذَلِكَ الصَّحَابِيّ، والأمة ملزمة بالعمل بالنص، وغير ملزمة بالعمل باجتهادات الصَّحَابَة، قَالَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ


(١) كشف الأسرار للبزدوي ٣/ ٦١، وأصول السرخسي ٢/ ٨، وميزان الأصول: ٤٤٤ وتحقيق د. عَبْدالملك السعدي ٢/ ٦٥٥ - ٦٥٧، وتيسير التحرير ٣/ ٧١.
(٢) البحر المحيط ٤/ ٣٤٦.
(٣) ميزان الأصول: ٤٤٥، تح: د. مُحَمَّد زكي عَبْد البر، و ٢/ ٦٥٦ تح: د. عَبْد الملك السعدي، وأصول الفقه الإسلامي في نسيجه الجديد: ٣٦.
(٤) الفصول في علم الأصول ٣/ ٢٠٣.
(٥) أسباب اختلاف الفقهاء: ٣٠٤.
(٦) إحكام الفصول للباجي ١/ ٣٥٢ فقرة (٣١٤)، والمحصول ٢/ ٢١٦.

<<  <   >  >>