للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأبعَدَ مَنْ قال: بقدرته عليه، ويُتَصَوَّر مِنهُ لَكِنَّهُ لا يفعله عَدْلًا وتَنَزهًا عنه؛ احتجاجًا بقوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)} [ق: ٢٩] فقد تَمَدَّحَ بهِ ولا يُمْدَحُ


= موجودًا ومعدومًا، قالوا: لأنَّ الظلم إمَّا تصرُّف في مُلكِ الغير بغير إذنه، وإمَّا مخالفة الأمر، وكِلاهُما في حقِّ الله تعالى محال، فإنَّ الله مالكُ كُل شيء .. ، وأمَّا تصوّر وجوده وقدر وجوده فهو عدل كائنًا ما كان، وهذا قول جهم ومن اتبعه، وهو قول كثير من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم من المتكلمين!!
وقالت القدرية: الظلم إضرارُ غير مستحق، أو عقوبة العبد على ما ليس من فعله، أو عقوبته على ما هو مفعول منه ونحو ذلك، قالوا: فلو كان سبحانه خالقًا لأفعال العبيد مريدًا لها قد شاءها وقدَّرها عليهم ثم عاقبهم عليها كان ظالمًا، ولا يمكن إثبات كونه سبحانه عدلًا لا يظلم إلَّا بالقول بأنَّهُ لم يُرد وجود الكفر والفسوق والعصيان ولا شاءها، بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته وإرادته، كما فعلوه بغير إذنه وأمره، وهو سبحانه لم يخلق شيئًا من أفعال العباد لا خيرها ولا شرّها!! بل هم أحدثوا أعمالهم بأنفسهم، ولذلك استحقوا العقوبة عليها، فإذا عاقبهم لم يكن ظالمًا لهم، وعندهم أنه يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون!! فإن المشيئة -عندهم- بمعنى الأمر.
وهاتان الطائفتان متقابلتان غاية التقابل، وكل منهما تذم الأُخرى وقد تُكَفِّرُها وتسميها قدرية.
وقال أهل السُّنة والحديث ومن وافقهم: الظُّلمُ وضع الشيء في غير موضعه، وهو سبحانه حَكَمٌ عَدْلٌ، لا يضعُ الشيء إلا في موضعه الذي يُناسبه ويقتضيه العدلُ والحِكمةُ والمصلحةُ، وهو سبحانه لا يُفرِّق بين متماثليْن ولا يُسوِّي بين مختلفين، ولا يُعاقب إلَّا من يستحق العقوبة فيضعها في موضعها لِمَا في ذلك من الحِكمةِ، ولا يُعاقب أهل البر والتقوى، وهذا قول أهل اللغة قاطبة، وتفسير الظلم بذينك التَّفسيرين اصطلاحٌ حادِثٌ ووضعٌ جديد ... " -ثمَّ ذكر كلام بعض أهل اللغة في أنَّ الظلم وضعُ الشيء في غير موضعه- ثم قال: "وهذا القول هو الصواب المعروف في لُغةِ العرب والقرآن والسنة، وإنما تُحملُ ألفاظهما على لغة القوم لا على الاصطلاحات الحادثة، فإن هذا أصل كُلِّ فساد وتحريف وبدعةٍ، وهذا شأنُ أهل البدع دائمًا يصطلحون على معانٍ يضعون لها ألفاظًا مِن ألفاظ العرب ثمَّ يحملون ألفاظ القرآن والسنة على تلك الاصطلاحات الحادثة" اهـ. "مختصر الصواعق" (٢/ ٥٧٦ - ٥٨٢).
وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمهُ الله- حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وأطال الكلام على مسألةِ الظُّلم وتوابعها. انظر: "مجموع الفتاوى" (١٨/ ١٣٦ - ٢٠٩)، ويُنظر: "منهاج السنة" (٣/ ٢٠ وما بعدها)، و"جامع الرسائل" (١/ ١١٩ - ١٤٢).

<<  <   >  >>