للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون، فتؤدي إلى تدمير الحياة وانتكاسها، وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده، فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات- وهي شتى- من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم في مجال الحياة البشرية؛ ليقوّم به تجربته وحكمه وليضبط به اتجاهه وحركته.

والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصّواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما- العقل والوحي- من صنع الله فلا بد أن يتطابقا .. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه.

والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي- حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر- إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله .. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجّة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله- سبحانه- يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة.

والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم- وهو من منتجات العقل- يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك .. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شئ؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق، وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد تكفل له انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها- وفق

<<  <  ج: ص:  >  >>