للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجاهلية في هذه النفس، ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعا. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل، والخضوع للطغيان طويلا، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء.

ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلا، عاشوا في ظل الإرهاب وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك. عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال.

وفسدت نفوسهم، وفسدت طبيعتهم، والتوت فطرتهم وانحرفت تصوراتهم، وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر .. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلا للإرهاب والطغيان .. لقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها، وهو يقول لعماله على الأمصار موصيا لهم بالناس: «ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم» .. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء، وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيدا للحكام. إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله ..

ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني .. ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر .. فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر- لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه. من ابن فاتح مصر وحاكمها وسافر شهرا على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب- الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه، وكان هو يصبر على السياط منذ

<<  <  ج: ص:  >  >>