للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مذكر، فقد عرض كل شئ بصيغة التذكير، وهذا يفيد أن الحقائق التي عرضها موجودة في الفطرة، وإنما هو مذكر بها، ومن ثم فكل شذوذ عنه تعذيب للفطرة نفسها، ومن ثم فلا سعادة لأحد إلا به.

وفي الآية الأخيرة دليل على أنه لا يتذكر بهذا القرآن إلا من كان في قلبه خشية، ولا خشية إلا بمعرفة ومن ثم فإن معرفة الله هي الفرض الأول على المكلف، ولكنها المعرفة المستقرة في القلب، وليست المعرفة التي تجري على اللسان، كما دلت الآية الأخيرة على أن القرآن يربي الخشية من الله، فمن أحس من نفسه ضعف الخشية، فليكثر من تلاوته

ثم قال تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى. العلى: جمع العليا، والعليا تأنيث الأعلى، أي نزل هذا القرآن تنزيلا من الذي خلق الأرض والسموات كلها، فمن كان هذا شأنه هو الذي أنزل القرآن فكيف لا يكون كتابه للإسعاد، وكيف لا يذكر عباده بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، فمن خلق الخلق لا يهمله- خاصة وهو متصف بالرحمة- والرحيم لا يترك عباده بلا توجيه يسعدهم، وهو مالك لكل شئ، والمالك لا يترك مملوكيه بلا رعاية، وهو العليم بكل شئ، ومن كان كذلك فهو الحري بأن تسعد توجيهاته، وهو المتصف بالأسماء الحسنى، ومن كان كذلك سيصدر عنه ما هو الأحسن، ولا يصدر عنه إلا ما يسعد، وكل هذه المعاني تضمنتها الآيات الأربع الآتية على الترتيب:

فبعد أن ذكر الله: أن الذي نزل القرآن هو الذي خلق السموات العلى قال:

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى استواء ليس كمثله شئ. قال ابن كثير: (من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل).

دلت الآية على أنه جل جلاله في غاية الرحمة، وفي غاية العظمة، ومن كان كذلك فإنه حري أن يخشى، وحري أن يكون كتابه مسعدا، وموجها ومربيا

ثم قال تعالى:

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أي ما تحت التراب، فالكل ملكه، وإذا كان كل شئ ملكه فهو غني عن أن يشقي أحدا بتوجيهاته. وهو حري أن يسعد بتنزيله، وهو جدير بأن ينزل كتابا

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي وإن ترفع صوتك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أي ما أسررته إلى غيرك، أو ما أسررته في نفسك وَأَخْفى ويعلم ما هو أخفى من السر وهو ما أخطرته ببالك، أو سترته في نفسك للمستقبل، أو هو ما لم تحدث به نفسك، ولكنه مستكن فيها، وهو الذي يسميه علماء

<<  <  ج: ص:  >  >>