للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بهذه العبادة دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادة، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس، كالصلاة والصوم، أو بالمال كالزكاة، وقد اشتمل الحج عليهما، مع ما فيه من تحمل الأثقال، وركوب الأهوال، وخلع الأسباب، وقطيعة الأصحاب، وهجر البلاد والأوطان، وفرقة الأولاد والخلان، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، فالحاج إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده، وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط، وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه مطيبا بالحنوط، ملففا في كفن غير مخيط، ثم المحرم يكون أشعث حيران، فكذا يوم الحشر، يخرج من القبر لهفان، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغبا ورهبا، سائلين خوفا وطعما، وهم من بين مقبول ومخذول، كموقف العرصات، لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد، والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمنا، من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال، غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية، كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية، فمرحبا بمن جاوز مهالك البوادي شوقا إلى اللقاء يوم التنادي).

وقال صاحب الظلال في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ: (والمنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة فالحج موسم ومؤتمر. الحج موسم تجارة وموسم عبادة الحج مؤتمر اجتماع وتعارف ومؤتمر تنسيق وتعاون وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة .. أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقا رائجة حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شئ من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فج ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم. يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد. فهو موسم تجارة ومعرض نتاج، وسوق عالمية تقام في كل عام. وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح. وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام. وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>