للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كهؤلاء عمل شاق عسير.

وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة، انحرفوا عنها، وفسدت صورتها في قلوبهم فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ولا هي باقية على عقيدتها القديمة. ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة. والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا، له حياة خاصة تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير. ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.

فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى عليه السلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة.

إن لحياة القصور جوا خاصا، وتقاليد خاصة، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية، والرسالة معاناة الجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ. والمهذب والخشن، وفيهم الطيب والخبيث والشرير. وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع .. وفيهم وفيهم ... وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم، وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة، وطريقة حديثهم وحركتهم، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم .. وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين، ومشاعر الذين تربوا في القصور، ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخبر مستعدة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور!

وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا .. وقلوب أهل القصور- مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة. لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.

فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى- عليه السلام- أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة، وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون

<<  <  ج: ص:  >  >>