للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واختلّت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة؛ وتصوّر أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله؛ وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شئ، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟

وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.

هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.

وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ!

إنا كنا معكم ... وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجئ الرخاء تنبعث الدعوى العريضة. وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون:

إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ! أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ.

أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟

فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموّهون؟

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ.

وليكشفنهم فيعرفون؛ فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون.

ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ.

فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات- وللطاقة البشرية حدود- ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وبين عذاب الله العظيم؛ فلا يختلط في حسّهم أبدا عالم الفناء الصغير، وعالم الخلود الكبير، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة، وجهد الاحتمال ... إن الله في حسّ المؤمن لا يقوم له شئ، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله ... وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق).

<<  <  ج: ص:  >  >>