للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثاله: أنَّك ترى الشخص فتعلم أنَّه فلان، وتسمع صوته فتعلم أنَّه هو، وتلمسُ الشيءَ فتعرفه، وتشمُّه فتعرفَ أنَّه هو، ثُمَّ تستدلُّ بما تسمعه من صوته على أنَّه هو الذي رأيته، فيغنيك سماع صوته عن (١) رؤيته، ويقوم لك مقام مشاهدته.

ولهذا جَوَّزَ أكثرُ الفقهاء شهادةَ الأعمى، وبيعَهُ وشراءَهُ. وأجمعوا على جواز وَطْئِه امرأَتَهُ، وهو لم يَرَها قَطُّ، اعتمادًا منه على الصوت، بل لو كانت خرساء - أيضًا - أو هو أطرش؛ جاز له الوطء.

وقد جعل الله - سبحانه - بين السمع والبصر والفؤاد علاقةً وارتباطًا ونفوذًا يقوم به بعضها مقام بعض. ولهذا يَقْرنُ - سبحانه - بينها كثيرًا في كتابه كقوله: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦)[الإسراء: ٣٦]، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ [الأحقاف: ٢٦]، وقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٧٩]، وهذا من عناية الخالق - سبحانه - بكمال هذه الصورة البشريَّة، لتقوم كلُّ حاسَّةٍ منها مقام الحاسَّةِ الأخرى، وتفيد فائدتها في الجملة، لا في كلِّ شيء.

ثُمَّ أودع - سبحانه - قوَّةَ التفكُّر فيه، وأَمَرَهُ باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة، فركَّبَ "القوَّةَ المُفَكِّرة" [من] (٢) شيئين من الأشياء الحاضرة عند "القوَّةِ الحافظة" تركيبًا خاصًّا، فيتولَّدُ من بين ذَيْنك الشيئين شيءٌ ثالثٌ جديدٌ لم يكن للعقل شُعُورٌ به، وكانت موادُّهُ عنده


(١) من (ح) و (م)، وفي بقية النسخ: فيعينك سماع صوته على …
(٢) زيادة يقتضيها السياق.

<<  <  ج: ص:  >  >>