للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإن قيل: أو ليس الكتاب الذي كتب الله [فيه] المقادير آتيا على ذكر ما هو كائن إلى يوم القيامة من ملك وجن وإنس، فكيف يتصور منه سابقة ذكر؟

قلنا: إنما كان ذلك لبيان علم الله بالمخلوقات التي أراد خلقها ونفوذ قضائه فيها، ولم يكن هناك ملك ولا جن ولا إنس حتى يذكر أحد منهم على وجه الشرف والفضل، فإن هذا النوع من الذكر إنما يوجد مع وجود سامع من الخلق ولم يكن هناك سامع. والدليل على ذلك حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. فقال: ما أكتب قال: القدر ما كان وما هو كائن [إلى الأبد]) وقد أخرجه أبو داود وأبو عيسى في كتابيهما، والذي ذكرناه أنه يدل على: أن الفضيلة الخاصة إنما كان لبيان شرف المذكور وبيان درجات المصطفى من عباده وبيان ما أيد به. [١٧٧/ب] من الوحي وبيان ما بينه وبين غيره من الكتب المنزلة من التفاوت في الفضل فأسمع به من خلق حينئذ من أهل طاعته، وأطلعهم تنويها باسمه وتعظيما لقدره؛ إذ قد علمنا من مورد الخطاب وفصله أن الشارع إنما ذكر ذلك عن التنزيل وعن نفسه أنه كان عبد الله في أم الكتاب لبيان ما خوله الله وأنعم به عليه وأكرم به وجهه من الشرف والفضل ولا محمل له غير ذلك، وهذا هو الفرق بين الأمرين.

فإن قيل: وما يدريك أن لا يكون الكتب المنزلة قبل القرآن مشاركة له في سابقة الذكر. قلنا: أعظم تلك الكتب وأبسطها [بيانا] وأكثرها إحكاما وأوفرها اتباعا على ما انتهى إلينا من أخبار الأمم (التوراة) وقد عرفنا صحة ذلك من فصل الخطاب فيما نتلوه من كتاب ربنا ونرويه من سنة نبينا، وقد علمنا بالحديث الصحيح أن التوراة قد تأخر في سابقة الذكر عن القرآن بما لا يضبط ولا يحصى من الأعوام والأحقاب، فغيره أولى أن يكون في ذلك على مثل حال التوراة أو دونه والحديث هو الذي يرويه عمر بن الخطاب وأبو هريرة وجندب البجلي - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في محاجة آدم وموسى وفيه: (فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين عاما). ولقد أسهبنا في المقال في بيان هذا الحديث وكان القصد فيه بيان جملة كثيرة من السنن يتهيأ بيانها على هذا المنوال والله أعلم.

[١٤٩٠] ومنه: حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - عليه السلام: (إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس) أراد بكل شيء الجنس الذي يصح إضافة القلب إليه، إما صورة أو معنى، فإن القلب يستعمل في كلامهم على وجوه كثيرة منها قلب الإنسان يعبر به عن المعاني المختصة من الروح والعلم والفهم والعقل والشجاعة وغير ذلك ومنها قلب الجيش وقلب العقرب وقلب الشجر.

ولما كان القلب لب الإنسان استعمل القلب في لب الأشياء، فقيل: قلب النخلة أي لبها وقولهم: هو عربي قلبا أي خالص. ومنه الحديث: كان علي قرشيا قلبا وقد فسره أبو عبيد فقال: فطنا فهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>