للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالحديثين أن النهي فيهما إنما جاء شفقاً على من باشر الأمرين، فيصيبه علة في نفسه، أو عاهة في إيله، فيعتقد أن العدوى حق.

قلت: وأرى القول الثاني أولى التأويلين، لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة فيه، لأن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطبية، ولم يرد الشرع بتعطيلها، بل بإثباته، والعبرة بها، على وجه لا يناقص أصول التوحيد، ولا يناقصه في القول بها على الوجه الذي ذكرناه، وأما استدلالهم بالقرائن المنسوقة عليها، فإنا قد وجدنا الشارع يجمع في النهي بين ما هو حرام وبين ما هو مكروه وبين ما ينهى عنه لمعنى وبين ما ينهي عنه لمعان [١٤٣/أ] كثيرة، فيدل على صحة ما ذكرنا قوله - صلى الله عليه وسلم - للمجذوم المبايع: (قد بايعناك فارجع) في حديث الشريد بن سويد الثقفي، وهو مذكور فيما بعد هذا الباب. وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمجذوم الذي أخذ بيده فوضعها معه في القصعة (كل ثقة بالله وتوكلاً عليه) ولا سبيل إلى التوفيق بين هذين الحديثين إلا من هذا الوجه تبين بالأول التعرض للأسباب وهو سنته، وبالتالي ترك الأسباب وهو حاله.

وفيه (ولا طيرة) الطيرة: التفائل بالطير والتشاؤم بها، كانوا يجعلون العبرة في ذلك تارة بالأسماء وتارة بالأصوات، وطوراً بالسنوح، وطوراً بالبروح، وكانوا يهيجونها من أماكنها لذلك. والطيرة تطير طيرة كما يقال: تخير خيرة. ولم يأت من المصادر على هذه الصيغة غيرهما. ولم يأت من الأسماء على وزانهما إلا التولة وسبى طيبة، والتولة بالضم أيضاً.

وفيه (ولا هامة) الهامة: من طير الليل، وهو الصدى، وكانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك ثأره تصير هامة فتزقو تقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك ثأره طارت. وإلى هذا المعنى يلتفت قول الشاعر:

ومنا الذي أبلى صدى ابن مالك .... ونفر طيراً عن جعادة وقعا

وفيه (ولا صفر) الصفر فيما كانت العرب تزعم: حية في البطن تعض الإنسان إذا جاع. واللذع الذي تجده عند الجوع يرونه من عضه. قال أعشى باهلة:

ولا يعض على شرسوفه الصفر

وقيل إنه تأخيرهم المحرم إلى صفر، والوجه هو الأول. وفي رواية: (ولا نوء) النوء عند العرب: سقوط نجم وطلوع نظيره من الفجر. أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، من المنازل الثمانية والعشرين.

كانوا يعتقدون أنه لا بد عند ذلك من مطر أو ريح، فمنهم من يجعله الطالع [١٤٣/ب]؛ لأنه ناء. ومنهم من ينسبه إلى الغارب، فنفى صحة ذلك، ونهى عن القول به، وكفر من يعتقد أن النجم فاعل ذلك. وفي الرواية الأخرى عن جابر (ولا غول) الغول بفتح الغين وسكون الواو المصدر، ومعناه: البعد والإهلاك: ويضم الغين الاسم، وهو من السعالي، والجمع: أغوال وغيلان.

وكانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات تراءى للناس فتغول تغولاً أي تلون تلوناً فتضلهم عن الطريق فتهلكهم. وقد عارض هذا الحديث حديث أبي أيوب -رضى الله عنه- وهو قوله: كان لي نمر في سهوة وكانت الغول تجيء فتأخذ) الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>