للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن قد يقول قائل: هل لنا في هذا أسوة؟ بمعنى أننا إذا وجدنا شيئا نشك في تحريمه، والأصل عدم التحريم أي: أن ندعه خوفا من أن يكون محرمًا؟ يُقال: إن كان هناك قرينة تقتضي أن يكون من الشيء المحرم فالورع تركه، وإلا فإنه لا وجه لتركه، ويدل لذلك ما ثبت في البخاري عن عائشة أن قومًا سألوا النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا». قالت: وكانوا حديث عهد بكفر فلم يأذن لهم في التورع منه؛ لأن الأصل الحل فالجمع بين هذا وهذا بأحد وجهين، إما أن يقال: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) له مقام لا يساويه أحد في تورعه (صلى الله عليه وسلم)، وإما أن يقال إن النبي (صلى الله عليه وسلم) وجد قرائن تدل على أنها من الصدقة، وأنه إذا وجدت قرائن في الحرام فالورع تركه، أما على الوجه الأول وهو أنه يفرق بين قوي الورع وبين عامة الناس فإن في النفس منه شيئا، وإن كان الإمام أحمد في ظاهر فتواه يدل على ذلك على أن الناس يختلفون في تجنب الشيء ورعا منه، فإنه يذكر عنه أنه سألته -أظن- رابعة العدوية قالت: إن السلطان يمر بنا ونحن نغزل في الليل وأنه إذا مر ازداد الغزل من أضواء سرج السلطان فهل تُجوز لنا هذه الزيادة؟ فتعجب الإمام أحمد من هذا السؤال فقال: نعم، لأن السلطان مار بالسوق، على كل حال وأنتم ما ذهبتم تقصدون الاستضاءة بنور سرجه، ثم أدبرت فدعاها؛ لأنه سأل صاحبه قال: من هذه؟ فقال: هذه فلانة فدعا بها وقال: لا تزيدي غزلكم فإن بيتكم خرج الورع فهذا يدل على أن الفتوى في هذا الأمر تختلف، أما إذا قلنا بالثاني وهو أنه كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) قرينة تدل على أنه من الصدقة فالأمر ظاهر، وهو أنه كلما قويت القرائن كان الورع تركه.

ومن فوائد الحديث: أن التمر والطعام إذا وقع في الطريق بدون قصد فإنه لا يأثم صاحبه، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر ذلك، واستشكل بعض العلماء هذا الحديث من وجه وقال: كيف لم يرفعها النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يحتفظ بها؛ لأنها إن كانت من الصدقة فهي من مال بيت المسلمين، وإن كانت من غير الصدقة فإنه ينتفع بها يتصدق بها على فقير، المهم ينتفع بها، فلما لم يرفعها النبي (صلى الله عليه وسلم) والجواب على هذا الاستشكال أنه في غير محله لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقل: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة» لرفعتها بل قال: «لأكلتها»، وفرق بين الرفع والأكل، فالحديث ليس فيه دليل على أنه لم يرفعها، بل لو قال قائل: إن فيه دليلاً على أنه رفعها لكان له وجه، على هذا يكون هذا الاستشكال غير وارد.

أتى المؤلف بهذا الحديث في هذا الباب ليستدل به على ما ذكرنا آنفا من أن الشيء القليل

<<  <  ج: ص:  >  >>