للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التفصيل في صفات النفي عيب غير لائق، والإجمال هو الكمال، لو أنك أردت أن تعظيم أميرًا من الأمراء فقلت: إنك أمير لا يساويك أحد في الحزم والقوة والرأي والحكمة، مثلاً ماذا يكون؟ هذا طيب، لكن لو قلت: إنك أمير ولست ببخيل ولا جبان ولا فراش ولا كسّاح ولا منظف للأسواق ماذا يقول؟ يرى أنك عبته ويأمر بتأديبك؛ لأن هذا غير لائق؛ ولهذا قال العلماء: من الحكمة أن الله تعالى يذكر الصفات المنفية على سبيل الإجمال؛ لأنّ ذلك أبلع في الكمال، لكن قد تذكر الصفات المنفية على وجه التفصيل لسبب، إما لكون السامع قد توهمها، وإما لكون هذه الصفة المنفية قد قيلت في الله عز وجل، فمن الأول قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيامٍ وما مسنا من لغوبٍ} [ق: ٣٨]. هذا نفي لصفة خاصة لكنه نفي في محله؛ لأن السامع قد يظن أن هذه المخلوقات العظيمة تعي الله عز وجل فنفى ذلك عنه، ومثال نفي ما ادعاه المبطلون هذه الدعاء: "لم يلد ولم يولد" فهذا نفي خاص؛ لأنه دعي في جانب الله عز وجل، ثم اعلم أن جميع الصفات المنفية ليس المراد بها مطلق النفي، لماذا؟ لأن مطلق النفي العدم، والعموم ليس بشيء، والله يقول عن نفسه: ولله المثل الأعلى أي الوصف الأكمل، فإذا وصف بعدم فأين الكمال، إذن إذا كان يمتنع المراد بالصفات المنفية مطلق النفي، فما المراد؟ المراد: إثبات الكمال، فكأننا نقول: {وما مسنا من لغوبٍ} [ق: ٣٨]. لكمال قوته، {وما ربك بغافلٍ عما يعملون} [البقرة: ١٣٢]. لكمال علمه وإحاطته ومراقبته، هذا هو المراد، إذن المراد بالصفات المنفية إثبات ضدها على وجه الكمال، ولو لم نقل ذلك لكان يحتمل أن يراد بالصفات المنفية القدح والعيب؛ لأنه قد ينفي الشيء المعيب لعيب من نفي عنده، ومنه قول الشاعر: [الطويل]

(قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل)

نمدحهم بالوفاء وعدم الاعتداد، الوفاء لا يغدرون بذمة، وعدم الاعتداد ولا يظلمون الناس حبة خردل، إذا سمعت هذا الكلام تقول: أثنى عليهم أم عابهم؟ أثنى عليهم، أوفياء عدلاء، لكن الواقع أنه أراد ذمهم، ويدل لهذا التصغير في أول قبيلة، وكذلك أيضًا قول الشاعر: [البسيط]

(لكنَّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشَّرفي شيءٍ وإن شانا)

(يجزون من ظلم أهل الظُّلم مغفرةً ... ومن إساءة أهل السُّوء إحسانًا)

<<  <  ج: ص:  >  >>