للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليهم}، والحكمة من هذا: تلافي إضافة الغضب إلى الله- عز وجل- في هذا السياق وإلا فقد اضاف الله الغضب إلى نفسه في مواضع أخرى كما قال- عز وجل-: {من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: ٦٠]. وقال في قاتل العمد: {وغضب الله عليه ولعنه} [النساء: ٩٣]. أي فائدة أخرى أن من غضب الله عليه غضب عليه أولياء الله؛ لأن أولياء الله يحبون ما أحبه الله ويكرهون ما كره الله، فلما كان الغضب من الله ومن أولياء الله صار التعبير باسم المفعول أعمُّ، فمَن المغضوب عليهم؟ المغضوب عليهم يُعرف صنفهم إذا قسمت أقسام الناس في هذه السورة، {ولا الضالين} الضال: الذي لم يهتد للطريق، يطلب الطريق لكن ضلّ، كما لو خرج الإنسان في البرية ثم ضلَّ الطريق فهو يبحث عنه، وقد يسلك طريقًا فيه هلاكه وهو لا يدري، فالضال هو مَنْ جهل الحق بعد طلبه، {المغضوب عليهم}: هم الذين علموا الحق وخالفوه: {الذين أنعم الله عليهم} هم الذين علموا الحق واتبعوه، فالأقسام ثلاثة: عالم بالحق متبع له، فهذا أنعم الله عليهم، وعالم بالحق خالفه فمغضوب عليهم، وطالب للحق لم يوفق له الضال، هذه أقسام حاصرة، على رأس المغضوب عليهم: اليهود: وعلى رأس الضالين: النصارى، ولهذا جاء في الحديث وإن كان فيه نظر تفسير {المغضوب عليهم} باليهود، و {الضالين} بالنصارى.

وهذه السورة في الواقع إذ تأملها الإنسان وتعمق فيها علم الحكمة من كونها أم القرآن، وأم الكتاب؛ لأن جميع معاني القرآن ترجع إليها، فيها علم التاريخ، أحوال الأمم، الرسل، كل شيء، كل الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن أساسها موجود في الفاتحة، ولهذا استحقت أن توصف بأنها "أم القرآن"، واستحقت أنها لا تصح صلاة أحد إلا بقراءتها وهذه مزية عظيمة، آية الكرسي أعظم آية، {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، ومع ذلك تصح الصلاة بدونهما، لكن هذه لها هذه المزية؛ لأنها قد جمعت معاني القرآن الكريم، ومن أراد التوسع فيها فعليه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم، فقد أتى فيه بالعجب العجاب حول تفسير هذه السورة العظيمة.

فتقول: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه" "كان" أي: النبي- صلى الله عليه وسلم-، "إذا ركع" يعني: حنى ظهره "لم يشخص رأسه ولم يصوبه" الإشخاص: الرفع، والتصويب: التنزيل، فهو لا يرفعه ولا ينزله، بل يجعله محاذيًا لظهره، ثم كيف حال الظهر؟ دلت الأدلة الأخرى على أنه يسوي ظهره تمامًا حتى لو صُبَّ الماء لاستقر من شدة تسوية الظهر، ولكن بين ذلك؛ يعني كيفية استواء ظهره المشار إليه في الحديث بأنه لا يكون فيه الإشخاص والتصويب.

<<  <  ج: ص:  >  >>