للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الآخرة). . فيه نظر؛ لهذا الحديث الدال على استوائهما في ذلك، وأتى به تتميمًا لوصفه تعالى بالرحمة، وإشارةً إلى أن ما دلَّ عليه من دقائقها وإن ذكر بعد ما دلَّ على جلائلها الذي هو المقصود الأعظم. . مقصود أيضًا؛ لئلا يُتوهم أنه غير ملتفَتٍ إليه، فلا يُسأل ولا يُعطي.

والرحمة: عطفٌ وميلٌ روحانيٌّ، غايته الإنعام، فهي لاستحالتها في حقه تعالى مجازٌ؛ إما عن نفس الإنعام فتكون صفة فعلٍ، أو عن إرادته فتكون صفة ذاتٍ، وإما من باب التمثيل المقرر في علم البيان.

(الحمد) مصدر (حمد) وهو لغةً: الوصف بالجميل، سواء تعلَّق بالفضائل؛ أي: الصفات التي لا يتعدى أثرها للغير، أم بالفواضل؛ أي: الصفات المتعدي أثرها إليه، وعرفًا: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المُنعِم من حيث إنه منعمٌ على الحامد أو غيره، وهذا هو الشكر لغة، وأما اصطلاحًا: فهو صرف العبد جميع ما أنعم اللَّه تعالى به عليه؛ من نحو السمع والبصر وسائر الجوارح والحواس إلى ما خُلق لأجله من الطاعات، ولعزَّة هذا المقام قال اللَّه تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.

قال بعض محققي الصوفية: حقيقة الحمد: إظهار بعض الصفات الكمالية بقولٍ كما مر، أو بفعل وهو أقوى؛ إذ الفعل الذي هو أثر السخاوة مثلًا يدل عليها دلالةً عقليةً قطعية، لا يتصور فيها تخلُّفٌ، بخلاف القول، ومن هذا القبيل حمده تعالى على ذلك (١)؛ لأنه تعالى لما بسط بساط الوجود على ممكناتٍ لا تحصى (٢)، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى. . فقد كشف عن صفات كماله، وأظهرها بدلالاتٍ عقليةٍ قطعيةٍ تفصيليةٍ غير متناهية، فإن كل ذرةٍ من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات، ومن ثَمَّة قال عليه الصلاة والسلام: "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (٣).


(١) هذا هو التحقيق، وأما ما يقال من أنه تعالى حمد ذاته على ألسنة عباده. . فتكلُّفٌ مستغنًى عنه. (عيمكي) اهـ هامش (غ).
(٢) في (غ): (بساط الجود. . .).
(٣) أخرجه مسلم (٤٨٦)، وأبو داوود (٨٧٩)، والترمذي (٣٤٩٣) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. وفي هامش (غ): (أي: لأن ثناء الرسول عليه الصلاة والسلام بالقول، وثناء اللَّه تعالى بالفعل، وقد مر من أن الفعل أقوى من القول).

<<  <   >  >>