للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثالث: أن الناس كانوا يظنون أن الأرض خالية عن سياسة درب بالخلق، درب بإقامة الحق فأردت أن أكشف لهم عن بنات صدري، وأعلمَهُم كيفية وِرْدِي في الأمر، وفي صحيح الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لِسَمُرَة: " لاَ تَسَل الإمَارَة، فَإِنَّكَ إِنْ سَألْتَهَا لَمْ تُعَنْ عَلَيْهَا، وَإنْ أُعْطِيتَها مِن غَيْرِ مَسْألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا" (١).

وهذا وإن كان من قول يوسف خبراً عن شريعته، فإن الشرائع في هذا الباب متماثلة؛ لأنّه من باب التعاطي المذموم في كل ملّة، المناقض للتواضع المحمود في كل دين" (٢).

قلت: وهكذا لم تمض سنةٌ وبضعةُ أشهر (٣) على ولايته القضاء، حتى ثارت الغوغاء في وجهه ونكب، فانصرف عن القضاء أو صرف عنه، والتحق بقرطبة وبها جماعة من محبِّيهِ ومريديه ومعارفه، فانقطع للعلم والبحث، وقد استراح من أعباء القضاء.

وما إن استقر ابن العربي في قرطبة، حتى تواردت عليه الوفود من الطلاب، وأضحى بيتُه كعبةَ الواردينَ، وملجأ الوافدين، وكانت مجالسُهُ العلميةُ لا تكاد تنقطع ليل نهار، إلى جانب ما كان يقوم به من بحث وتأليف.

ويصوّر لنا بعضُ تلاميذه هذه الحياةَ العلميةَ التي كان يعيشها ابنُ العربي في خَلوة العلم والبحث فيقول: " ... وكنا نبيت معه في منزله بقرطبة، فكانت الكتب عن يمينه وعن شماله، وكان لا يتجرد من ثوبه، وكانت له


= بنفسي فعاثوا عليّ، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار، لكنت قتيل الدار". قلت: كانت قوة يقينه الِإيمان، وبعد همته العقلية يعصمانه من أن يستسلم إلى اليأس أو يركن إلى الدعة والخمول، رحمه الله رحمة واسعة.
(١) أخرجه البخاري في كفارات الأيمان: ١١/ ٦٠٨ (من الفتح) ومسلم في الإِمارة: ٣/ ١٤٥٦.
(٢) السراج: ٤٠/ أ.
(٣) البيان المغرب: ٤/ ٩٣.

<<  <   >  >>