للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلتُ: ورُوي عن الأئمةِ الثلاثة بسندٍ صحيح في كتاب «الأسماءِ والصفات»؛ مَنْ قال: إنَّ القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ، ففيه دليل على أنهم قالوا بحُدُوث الكلامِ اللفظيّ، وأنكروا كونَه مخلوقًا. فإنَّ الكلامَ النفسيَّ قَدِيْمٌ، واللفظيَّ حادثٌ عندنا، وسيأتي تفصيله في آخر الكتاب.

١٦ - باب قِيَامِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ فِى رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ

قال عامَّة العلماء: إنَّ التراويحَ وصلاةَ اليل نوعانِ مختلفان. والمختار عندي أنهما واحدٌ وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول اللَّيل تارةً وإيصالها إلى السَّحَر أُخرى. بخلاف التهجُّد فإنه كان في آخِر الليل ولم تكن فيه الجماعة. وجَعْلُ اختلافِ الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيِّدٍ عندي، بل كانت تلك صلاةً واحدةً، إذا تقدَّمت سُمِّيت باسم التراويح، وإذا تأخَّرت سُمِّيت باسم التهجُّد، ولا بِدْعَ في تسميتها باسمين عند تغايُرِ الوَصْفَين، فإنَّه لا حَجْر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأُمةُ. وإنَّما يثبُتُ تغايُرُ النَّوْعَيْن إذا ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنه صلى التهجُّدَ مع إقامَتِهِ بالتراويحِ.

ثُمَّ إنَّ محمدَ بن نَصْر وَضَعَ عدَّة تراجِمَ في قيام الليل، وكتب أنَّ بعض السَّلَف ذهبوا إلى مَنْع التهجُّد لِمَن صلَّى التروايح. وبعضُهم قال بإباحة النَّفْل المطلق فلَّ اختلافُهُم هذا على اتحادِ الصلاتين عندهم. ويؤيده فِعْل عمرَ رضي الله تعالى عنه، فإنَّه كان يصلِّي التراويحَ في بيته في آخِر الليل، مع أنه كان أَمَرَهم أن يؤدُّوهَا بالجماعةِ في المسجد، ومع ذلك لم يكن يدخُل فيها. وذلك لأنه كان يَعْلم أَنَّ عملَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كان بأدائها في آخِر الليل، ثُمَّ نَبَّهَهُم عليه قال: «إنَّ الصلاةَ التي تقومون بها في أول الليل مفضولةٌ عمَّا لو كُنتم تقيمونَها في آخِر اللَّيل». فجعلَ الصلاةَ واحدةً، وفَضَّل فيامَها في آخِر الليلِ على القيامِ بِهَا في أوَّلِ اللَّيل. وعامَّتُهُم لما لم يُدْرِكوا مُرَادَه جَعَلُوه دليلا على تَغَايُرِ الصَّلاتَيْن وزعموا أنهما كانتا صَلاتَيْن.

ثُمَّ إنَّ التراويحَ لم يَثْبُت مرفوعًا أَزْيَدُ من ثلاثَ عشرةَ ركعةً إلا بطريقٍ ضَعِيْفٍ. لا أقول: إنَّها لم تكن في نفس الأمْر، بل إنَّما أنكِر النَّقْل عنه بطريق صحيحٍ، فبقي الحالُ مستورًا فيما زاد. فجاز أن يكونَ صلاها بالعددِ المشهور، وجاز أن يكونَ اقتصرَ على هذا القَدْر فقط، إلا أن الثابتَ عَنه هو ثلاثَ عشرةَ. نعم اتفقوا على ثُبوتها عشرينَ ركعةً عن عمر رضي الله عنه، وخَفَّف في القراءة، وكافأها بازدياد الركعاتِ فجعلها عشرينَ مكانَ العَشَرةِ. وهو الذي أراده الراوي عند مالك رحمه الله تعالى في «مُوطَّئه» (ص٤٠) وكان القارىء يقرأُ بسورةِ البقرةِ في ثماني ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرةَ ركعةً رأى الناسُ أنه قد خَفَّف اهـ.

وفي «التاتاراخانية» (١): سأل أبو يُوْسُف أبا حنيفةَ رحمهما الله تعالى: هل كان لعمرَ رضي


(١) وفي "البحر الرائق" نقلًا عن "الاختيار": أَن أَبا يُوسف سأل أبا حنيفةَ عنها. وما فعله عمر رضي الله عنه فقال: التراويحُ سُنَّةٌ مؤكدةٌ، ولم يخرجه عمرُ رضي الله عنه من تلقاءِ نَفْسه ولم يكن فيه مُبتدِعًا. اهـ. وفي "تاريخ الخلفاء" "أن عمرَ رضي الله عنه كَتَب في السَّنة الخامسةَ عشرةَ أَنْ تقامَ التراويحُ عشرينَ ركعة. وفي "فتح القدير": أَن الثمانية منها سُنَّةٌ مؤكدة وما بقي فمستحبٌ، ونحوه في "المِرْقاة" و"البحر".

<<  <  ج: ص:  >  >>