للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مُكفِّراتٌ مطلقًا، صبر عليها أو لم يَصْبِر، لكونها تعذيبًا، ولا فرق فيه بين الصَّبر وعَدَمِهِ، نعم يُحْرَمُ من تضاعُفِ الأُجور.

قوله: (أولئِكَ عليهم صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهم ورحمةٌ) وفيه دليلٌ على جوازِ لَفْظِ الصلاةِ على غير الأنبياء عليهم السلام أيضًا، ونُقِل عن الفقهاءِ الأربعةِ قَصْرُها على الأنبياءِ عليهم السلام إلا بوساطَتِهم. أقول: وهو الذي ينبغي عليه العملُ، وإلا فيتساهلُ الناسُ فيه فيستعملونَها في كلِّ مَوْضع. نعم لا بد للتَّفَصِّي في الآية من حيلة. وما قيل إنَّ الصلاةَ فيها بمعنى الرحمةِ فليس بشيءٍ، فإنَّ الكلامَ في لَفْظ الصلاةِ بأيِّ معنىً (١) كان.

٤٣ - باب قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ»

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ».


(١) يقول العبد الضعيف: والذي تَحَصَّل لي في هذا الباب مِمَّا فَهِمته من كلام العلماء وتقرير شيخنا رحمه الله تعالى: أن لَفْظَ الصلاةِ له معنيان: الأول: بمعنى الرحمةِ، وذا لا يختص بأحد، والثاني: الصلاةَ التي تختصّ بالأنبياء وصارَت شعارًا فيهم، وذا لا يجوز إطلاقُها على أحدِ غيرِهم إلا تبعًا، قال الخطَّابي: وفيه دليلٌ على أنَّ الصلاةَ التي هي بمعنى الدعاء والتبريك يجوز أن يُصلَّى بها على غيرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأما الصلاة التي هي تحيةٌ لِذِكْر رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّها بمعنى التعظيم والتكريم، وهي خِصِّيصًا له لا يشاركه فيها إِلَّا آلِهٍ. اهـ. "معالم السنن".
ولما كان لفظُ الصلاةِ يَشْمُلُهما، جاز للقرآن والنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَن يستعمِلها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صل على آل أبي أَوْفى" نعم للأُمة حَظٌ من كمالات أنبيائهم فصلَّى عليهم بما يليق بشأنهم، وصلَّى اللهُ تعالى عليهم أيضًا فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: ١٥٧]. فإِن قلت: أَنَّ تقابلَ الصلاةِ بالرحمة يقتضي أن تكونَ الصلاةُ غيرَ الرحمة وألا يفوتُ التقابلُ.
قلت: ولعل اللهَ تعالى أرادَ أن يَمُنَّ عليهم بحظٍ مِنْ هذا اللفظِ أيضًا فجعلَها شِعارًا للأنبياءِ، ووَصفًا للأمم. وهي عندي كالإِسلام. فإِنَّه لَقَبٌ لنا مع إطلاقهِ في سائر الأمم، وكم مِن فرقٍ بينهما. وهذا كلَفْظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإِنَّه يصِح إطلاقُه لغة على الكفارِ أيضًا، لأنه من النَّبأ. وُيحجَر عليهم وعلى سائر الناسِ من حيثُ كونه لقبًا. ثُمَّ لما اشتهر ذلك اللقبُ في الأنبياء خاصَّة أَوْهم إطلاقُه على الغير نبوتَه، فحُجِر حَسْمًا للمادة. وكذلك لَفْظ: "الصلاة" لما اختصَّ من حيثُ الشعاريةُ بالأنبياء عليهم السلام وإنْ عَمَّ من حيثُ المعنى، ناسبَ أن يُحْجَر عنه لأَنَّا لو استعملناه فيما بيننا لانعدمَتْ شعاريتُه، وإنَّما صحَّ من جهةِ صاحب النبوةِ، لِعِلْمه بمكان إطلاقه مع قِلّة ورودِه عنه أيضًا، فاللفظ إذا دار بين النبي والأمة، فإطلاقه مِن صاحب النبوة صحيحٌ لكونِهِ مراعيًا للحدود. وأما الأُمة فيليقُ الحَجْرُ عليهم لتجاوز عامتهم عن الحدود وعدَم معرفتِهم المَحَل من غير المُحَلّ فيفضي إلى التحميم مطلقًا، وينعدم الاختصاصُ، والذي يتلخص منه أمران:
الأول: أن الصلاةَ لما عُرفت لقبًا في الأنبياء عليهم السلام، وعرفت فيها الشِّعارية حُجِر إطلاقها ننْ غير صاحب النبوة، لتوهُّم بطلانَ الاختصاص مع جوازها في حدِّ نفسها. فيرد إطلاقُها من صاحب النبوة من حيث الجواز، ويُحجر من الأمة من حيث إفضائه إلى انتفاء الشعارية. والثاني: أن اللفظَ مختصٌ بالأنبياء عليهم السلام بمعنى، ويعم بمعنى. وهذا التمييز إنَّما يحصل من صاحب النبوة وغيره لا يفرق بينهما، فيقضي إطلاق مطلق اللَّفظ على الغيرِ مع انتفاءِ التميز بين المَعنَيين وقد مرَّ عن الَشيخ رحمه الله تعالى: أن الصلاةَ تقَابل اللعنة، وهما مَحجورٌ إطلاقهما على أحدٍ بخصوصِهِما لكونهما في طرفي نقيض من الخير والشر، فيختص بصاحب النبوةِ لدرايته المَحَل من غيرِ المُحَل، دون الأُمة. والله تعالى أعلم بالصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>