للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قوله: (وتعفو أثره)، أي تمحو آثار أقدامه، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} والظاهر أنها التجارة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: ٢٦٧] كالعُشْر وغيره. ثم إن القرآن عمّم مما خرج من الأرض، ولم يُشر إلى نصابٍ فيه، فدل على مسألةِ الحنفيةِ من وجوبِ العُشر في كل ما خرج، قليلا كان أو كثيرًا. ولذا صرح ابن العربي أن الأسعدَ بالآية في هذا الباب هم الحنفية (١).


(١) واعلم أن الشيخ رحمه الله أجملَ الكلامَ في هذا الموضع، وتجدُه مفصلًا في موضع آخر من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وكنت أريدُ أن أعلق تلك الحاشية هناك، غير أني لا أذكرُ ذلك الموضع، فأردتُ أن أُلحقها ههنا.
فاعلم أن توضيحَ كلامِهِ، وتنقيح مرامه على وجه التفصيل لا يتحصَّلُ إلا بعد تمهيدِ مقدمة، وهي أن ههنا مسألتين نبه صاحب "الهداية" على الفرق بينهما:
الأولى: في وجوب العُشر في كل ما يخرج من الأرض: الخضراوات وغيرها سواء.
والثانية: في اشتراط النِّصاب؛ فالحاصل أن الخلاف في موضعين: الأول: فيما يجبُ فيه العُشر. والثاني: في
قَدْرٍ يجبُ فيه العُشر، فذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى العموم فيهما، واختار العمومَ في الأجناس، والعمومَ في
المقدارِ كليهما، فيجب العُشر عنده في الأجناس كلها، في قليلها وكثيرها، بدون اشتراط نصاب، إلا ما استثناه
أصحابنا، بدليل لاح لهم، وقد بَسَطَه صاحب "الهداية" فراجعه.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الحنفيةَ استدلوا من القرآن، وقالوا: إن قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: ١٤١] يُشعر بالعمومِ في الطرفين، فإنَّ النص لم يفرق في وجوب العُشر بين ما يخرج من الأرض، ولا أشار إلى اشتراطِ نصابٍ فيه. وزعموا أن القاضي أبا بكر بن العربي مع كونه مالكيًا قد وافقهم أيضًا، والشيخ رحمه الله لم يُنَازع في تمسكهم بالنص، وإنما خالفَ فيما فهموه من مراد القاضي، نعم، تلك أذواقٌ، فبعضُ الناس يغمض عن الظفَرِ بالمقصود، والآخر يحقِّق المقام، ولا يُبَالي بموافقة أحدٍ، ولا بمخالفتِهِ، فإنه قد يعودُ من باب توجيه القائل بما لا يَرضى به قائلُه.
فها أنا آتيك أولًا بعبارتِهِ التي ذكرها في "شرحه للترمذي"، وهي التي فهمها الحنفية أنها لهم، والثانية: ما ذكرها في تفسيره المعروف بـ: "أحكام القرآن" وهي التي دعا الشيخ رحمه الله إلى تحقيق المَقَام على خلاف ما زعموه.
فأقول: إن القاضي رحمه الله ذكرها في موضعين:
الأولى، وهي الأصرح عندهم: في باب زكاة الخَضراوات ... إلخ، وهذا نصه: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ}، إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: ١٤١] فامتنَّ الله على خلقه في إنبات الأرض، ثم قال لهم: كلوا مما أنعمت به عليكم، وآتوا حقَّهُ إذا جمعتموه بأيديكم، وآويتُموه إلى رِحَالِكم، فكما خَلَقه نعمةَ، ومكَّن منه نِعمةَ، أوجب فيه الحق. قال مالك: الحق ههنا الزكاة، وصَدَقَ. ومن قال غير هذا فقد وَهِمَ، وتعينَ حمل هذا على عمومه، إلا ما خصَّهُ دليلٌ يصحُّ تخصيصُه هنالك، حسب ما ذكرناه وحققناه هناك.
فأما مَن حمله على عمومه، فاستثنى الحطب، والقصب، والحشيش، فلا يقال: إنه تخصيص، لأنه قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ}، فإنَّما أوجبَ إيتاءُ الحق فيما يؤكل، وإلى هذا النحو أشار حمَّاد، وعليه دار من قال: مالُه ثمرةُ باقية، ولكنه خصه بالمُقتَات، بإشارة قوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} وكأنه أشار بيوم الحصاد إلى يوم يرفع إلى الجَرِين. =

<<  <  ج: ص:  >  >>