للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تلك بعينِها لم توجب فيها صدقة، قلتُ: ما بالُ هذه اعتبرت في الموضعين: خمسة ههنا، وخمسة هنالك؟ وحينئذ تَحدَّس لي أنَّ بينهما ربطًا لا محالة، أَوْجَب الرُّخصةَ فيها في الموضعين.

ولم أزلْ أتفكَّر فيه حتى ظهر لي أنَّ الشرعَ لما رخصه بالعَرِيَّة في تلك المِقْدَار بنفسه نظرًا إلى أنه يتصدق فيها بنفسه، وجب له أنْ يُخففَ الصدقة عنها، كي لا يؤدي إلى تثنية الزكاة في سنة واحدة. وحينئذٍ حكم ذِهني أن خمسةَ أوْسُق في باب الزكاة هي التي رخصَ فيها في البيوع. ومن ههنا ظهر وجهُ اختلافهم في وجوب العشرِ في خمسةِ أوسقٍ، وذلك أنَّ صدقَتَها لمّا لم تكن ترفعُ إلى بيت المال حمله بعضهم على نفيها في هذا المقدار مطلقًا، وحمل بعضهم على أنَّ صدقَتَها وإن لم تُرفعْ إلى بيت المال، لكنها لم تخل عن إيجاب حق، قالوا بالعشر، كالحلب يوم ورود المواشي، تركه الشارع إلى حسبة المالكين، ولم يدخل فيه. فكذلك الصدقة في خمسة أوْسُق.

ثم لم أزل أطلب له نقلا، فوجدت في «كتاب الأموال» لأبي عبيد (١) أن الخمسة في باب الزكاة هي خمس العَرَايا، فلله الحمد على التَّوَاردِ.

وأبو عُبيد هذا تلميذُ محمد، ومعاصرٌ لأحمد، وابن مَعِيْن.

ثم إنهم إن اختلفوا في تفسير العَرِيَّة، فذلك بحثٌ آخر يجيءُ في موضعه. فثبت الأمر الأول.

وأما إن التخفيف فيها نظرًا إلى كونها عَرِيَّة لا لنفي الزكاة رأسًا، فقد كشفه ما عند الطحاوي: ص ٣١٥ عن مكحول بإِسناد جيد مرسلا: «خففوا في الصدقات، فإنَّ في المال العَرِيَّة، والوصية»، وهو في «مراسيل أبي داود»، و «التمهيد» لأبي عمر، إلا أنَّ لفظ أبي داود: «الواطئة»، وأبي عمر و «الوطية»، بدل «الوصية»، وهي ما تَطَأُه الأرجل، ولعل الصواب، كما في «المراسيل». فدل على أنَّ أمرَ التخفيف في الصدقات لم يكن، لأنه لا زكاةَ فيها، بل لكونها العَرِيَّة فيها، وبه أمر الخلفاء أيضًا، كما أخرجه البيهقي (٢) أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما


(١) قال أبو عبيد: ذيل تشييد تفسير الشافعية أن له شاهدين، فذكر أحدهما أن توقيته - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وتركه الرخصة في خمسةِ أوسق يبين لك أنَّه إنما أذِنَ في قدرِ ما لا يلزمه الصدقة، لأن سنته أن لا صدقة في أقل من خمسة أوسق، وأن لا صدقة في العَرَايا، فهذه تلك بأعينها، والحديث يصدق بعضه بعضًا، إلخ. ص ٤٨٩ "كتاب الأموال".
(٢) قلت: وأخرج الطحاوي في باب الخرص عن سعيد بن المسيب، قال: بعث عمر بن الخطاب سهلَ بن أبي خيثمة يَخرصُ على الناس، فأمره إذا وجدَ القوم في نخلهم أن لا يَخرصْ عليهم ما يأكلون، فدلَّ على أنَّه لا زكاة في هذا المقدار، بمعنى كونِهِ مشغولًا بحاجتهم، ومن حاجاتهم العَرِيَّة، فرفعت عنها الصدقة أيضًا، بمعنى أنها لا تؤخذ منهم وفي "كتاب الأموال" ص ٤٨٧ عن مكحول، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بَعَثَ الخَرَّاص، قال: "خففوا، فإنَّ في المال العَرِيَّة والوطية"، وعن الأوزاعي، قال: بلغنا عن عمر بن الخطاب، قال: "خففوا على الناس في الخرص، فإن في المال العَرِيَّة والواطئة، والأكلة" قال أبو عُبيد: وفي بعض الحديث الوَطأة، وبعضهم يقول: الوطئة، فأما الوطئة فليس بشيء، وأما الواطئة والوطأة فهما جميعًا السَّابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين. وقوله: والأكلة: هم أرباب الثمار، وأهلوهم من لصق بهم، فكان معهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>