للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

في أشهر الحج، وليس كما تزعُم العرب: أن العمرةَ فيها من أفجرِ الفجور. ثم استقر اجتهاد عمر رَضي الله تعالى عنه على فضل الإِفراد، كما مر تقريره (١).

والذي يفيدُ ثلجَ الصدر في هذا المقام، أن عمر لم يكن ينهى عن القِرَان. وما رواه الطحاوي عن ابن عباس، قال: يقولون: إن عمر رضي الله تعالى عنه نَهى عن المُتعة، قال عمر: لو اعتمرتُ في عام مرتين، ثم حججتُ لجعلتها مع حجَّتي. اهـ. أي لو وقع في نفسي أنْ أعتمرَ عُمرتين، لجعلت إحدَاها مع حجتي، فأحرمت بالقِرَان، وهذا صريح في كون القِرَان أحبُّ عنده من الإِفراد في سفر.

ثم الظاهرُ أن نهي عثمان أيضًا كان من هذا القبيل. ولا نرى به أن يكونَ نهيٌ عن أمرٍ قد فعله النبي صلى الله عليه وسلّم كيف وأن عليًا لم يتَّبِعْه في ذلك، وأبى إلا أنْ يفعلَ ما رآه النبي صلى الله عليه وسلّم يفعله (٢).


(١) قلت: هذا غايةُ ما فهمتُ بعد تفكيرٍ بالغٍ، ثم لا أثقُ بنفسي، على أني أدركتُ حقيقةَ المراد، فإنِّي أخذتُ ما أخذت من مضبطي، وكان فيها سقطات، ومحوٌ وإثبات، فعليك أنْ تحررَ الكلام. والله أعلم.
(٢) قلت: وملخص ما دار بينهما من الكلام: أن عثمانَ كان يراهما جائزين، وإنما نَهى عنهما ليُعمل بالأفضل، لكن خشي على أن يَحمِلَ غيره النهيَ على التحريم، فأشاع جوازَ ذلك، وكل منهما مجتهدٌ، مأجورٌ. انتهى ما قاله الحافظ ملخصًا.
قلتُ: نعم، ذلك هو الظن بعثمان، غير أني لم أر أحدًا منهم أتى عليه برواية، كما أتوا به في قصة عمر، فجلَّ الخطْبُ لذلك. وجزى الله تعالى عنا علامة العصر الشيخ شَبيِّر أحمد دام ظله، وقد جزى، حيث أبرزَ لنا روايةً واضحةً في ذلك، فلم يترك موضعَ رَيبٍ لمرتابٍ، ووضح الأمرَ بعدها على جليته.
قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين": والصواب -إعلام الموفقين- المطبوع مع كتاب "حادي الأرواح": قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عبَّاد عن عبيد الله بن الزبير، قال: إنا والله مع عثمان بن عفان بالجُحْفة إذ قال عثمان -وذُكِرَ له التمتع بالعمرةِ إلى الحج-: "أتموا الحج، وأخلصوه في أشهر الحج، فلو أخرتُم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين، كان أفضل، فإنَّ الله قد أوسع في الخير"، فقال له علي: "عمدتَ إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورخصةٍ رخّص اللهُ بها في كتابه تضيِّقُ عليهم فيها، وتنهى عنها"، وكانت لذي الحاجة، والنائي الدار، ثم أهل عليٌّ بعمرة وحج معًا، فأقبل عثمان بن عفان على الناس، فقال: أَنهيتَ عنها؟ إني لم أنه عنها، إنما كان رأيًا أشرتُ به، فمن شاء أخذه، ومن شاء تركه.
قلت: الآن انبلج الفجرُ لكلِ ذي عينين، وتحقق أنه لم يُرد في ذلك غير ما أراده عمر، بل تبعه فيه. وقد ذكر الحافظ في باب من لبى بالحج وسماه: أن عمرَ هو أول من نَهَى عنه، وكان مَنْ بعدَه كان تابعًا له في ذلك. ففي مسلم أيضًا أنَّ ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أنَّ أولَ من نهى عنها عمر.
قلت: ورواية "الإِعلام" فيه عبيد الله بن الزبير، والظاهرُ أنه عبد الله بن الزبير، ولعله تعلم النهيَ عن عثمان، كما مر قصته معه. وهكذا وجدنَاه في نُسخة الشيخ العلامة المذكور مصححًا عبد الله بن الزبير، ولمّا علمتَ من مداركِ الخلفاءِ، فانظر إلى مقالة محمد، حيث استحب الإِفراد في سفرين، وجعله أفضلَ المناسك، وحينئذ لا تملك نفسكَ إلا أنْ تُجريَ لسانكَ بأنه كان رجلًا يملأ العينَ والقلب، قاله الشافعي فيه.
ويؤيد ما ذكره ابن القيم في "الإعلام" ما أخرجه الحافظ عن النسائي عن سعيد بن المُسيَّب بلفظ: "نهى عثمان عن التمتع"، وزاد فيه: "فلبَّى عليٌّ وأصحابهُ بالعمرة، فلم ينههم عثمان"، فقال له علي: "ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتع"؟ قال: "بلى"، ففيه دليل على أنَّ نهيَه لم يكن تحريمًا، بل كان مشورةً لهم. وحمله السِّنْدِي على الرجوع، وليس بجيدٍ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>