للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

«من ماتَ وعليه صيامُ شهرٍ، فَلْيُطْعِمْ عنه مكان كل يومٍ مسكينًا». اهـ. إلا أن الترمذيَّ لم يُحَسِّنْهُ، وحسَّنه القرطبيُّ، كما نقله العيني.

قلتُ: والظاهرُ أن الحديثَ ليس قابلا للتحسين، لأن في إسناده محمدًا، وهو ابن أبي لَيْلَى، كما صرَّح به الترمذيُّ في «جامعه». ثم رأيتُ التصريحَ به في «السنن الكبرى» في مَوْضعَيْن. وابن أبي لَيْلَى اثنان: الأول: عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وهو ثقةٌ. والثاني محمد بن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، ويُقَالُ له أيضًا: ابن أبي لَيْلَى، وهذا الذي اختلفوا فيه، وقد حَسَّنَ البخاريُّ حديثَهُ في أبواب السفر، كما عند الترمذيِّ. وفي «تذكرة الحفاظ»: أنه من رواة الحِسَان. قلتُ: وقد جَرَّبْتُ منه التغيير في المتون والأسانيد، فهو ضعيفٌ عندي، كما ذَهَبَ إليه الجمهورُ.

وبالجملة من حسَّن الحديثَ المذكورَ، ظنَّ أن محمدًا هو ابن سِيرِين. وإذن تحسينُ القرطبيِّ غير مقبولٍ عندي، إلا أن يكونَ عنده إسنادٌ غير هذا. أمَّا الجوابُ عندي، فلا أقولُ: إن المرادَ من الصَّوْمِ هو الإِطعام، وإنما عبَّر بالصوم مشاكلةً. بل أقولُ: إنه ينبغي أن يُصَامَ عنه إثابةً، ويُطْعَم مكان كل يومٍ مسكينًا أيضًا، قضاءً ممَّا عليه.

فالحاصل: أن الحديثَ محمولٌ على الإِثابة دون النِيَابة، والتعبيرُ المذكورُ يُصْلحُ لهما بدون تأويلٍ، لأنهما نِيَّتان. أي قد يكونُ الصومُ عن أحدٍ بنية الإِثابة، وقد يكون بنية النِيَابة، ولا يَتَلَفَّظُ بها أصلا، فَيُقَال في الإِثابة أيضًا: صَامَ عنه، كما يُقَال في النِيَابة بدون فرقٍ. أمَّا حديثُ: «لا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ»، فهو محمولٌ على النِيَابة، فلا تنافي بين الحديثين. وبعبارةٍ أخرى: إن الإِثابةَ والنِيَابةَ من أنظار الفقهاء، وليست مما يَدُلُّ عليه اللفظ بمدلوله اللُّغَوِيِّ، بل هي أمرٌ وراء الهيئة التركيبية تُفْهَمُ عنها، ولا تكون مدلولةً وضعًا. وإنما كرَّرْناه لئلا تظنُّه تأويلا، كيف ولا بحثَ للغويَ من أنظار الفقهاء، فلا يقولُ فيهما إلا أنه صَامَ عنه. ثم إنه انْعَقَدَ الإِجماعُ في باب


= وقد كان الآدميُّ يقضي عبادته من الصوم في حياته ببدنه إمساكًا، وكان أيضًا يقضيهما بماله في وقتٍ، وفي حالٍ تصدُّقًا وإطعامًا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للوليِّ: صُمْ عنه الصيامَ الذي تُمْكِن النيَابةُ فيه، وهو الصدقةُ عن التفريط في الصِّيَام. ويكون إطلاق الصَّومِ بأحد معنيين، إذ الأصل له. ومن أَشرَفَ من هذا المطلع بعين البصيرة، رأى أن غيرَه يسير في البنيان ولا حصرَ له. ويَعْضُدُ هذا ما روى أبو عيسى عن ابن عمر أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من مات وعليه صيامُ شهرٍ، فَليُطعِم عنه مكان كلِّ يوم مسكينًا"، قال أبو عيسى: والصحيح وَقْفُهُ على ابن عمر. ومن قوله. رَكِبْنَا نحن هذا التأويل. فاعجَبِ الآن لمن يقول: إذا كان نَذرًا صِيمَ عنه، وإن كان رمضان أَطعَمُوا عنه، فَيَجْعَل تحت اللفظ الواحد في النازلة الواحدة حُكْمَين مختلفين، بدليلين مُتَعَارِضَين. وحديثُ ابن عمر الذي ذكره أبو عيسى صحيحٌ، فينبغي أن يَقِفوا عنده. اهـ. "العارضة" بتغييرٍ يسييرٍ، ولعلَّ في العبارة سهوًا من الناسخ.
ثم قال في كتاب الحج: إن الصلاة لا خِلافَ فيها أنها لا يَنُوبُ فيها أحدٌ عن أحدٍ. وأمَّا الصدقةُ، فلا خِلَافَ في دخول النيابة فيها، والحجُّ كذلك على التفصيل فيهما. وأما الصيامُ، فاختلفوا فيه، ولمَّا دَخَلَ العِوَضُ في الصيام من الإِطعام، كان لنيابة العِوَض مَدْخَلٌ فيه من وجهٍ. اهـ. قلتُ: ومن ههنا ظَهَرَ وجهُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صومي عنها" في معنى النيابة أيضًا. فاحفظه.

<<  <  ج: ص:  >  >>