للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا الذي رُوعِيَ في باب الوتر، حيث جعل الواحدةَ وترًا، لكونها موترًا ووترًا في لِحَاظٍ ذهنيَ، فإن الوِتْرِيَّةَ في ثُلُث الوتر ليست إلا من قبلها، وذلك في لِحَاظِ الذهن، فلا يُوجِبُ قطعها عمَّا قبلها. ومَنْ قطعها عمَّا قبلها، أراد التنبيه على هذا اللِّحَاظ، فجعلوه مسألةً (١).

والحاصلُ: أن صيامَ الدَّهْرِ في حديث الباب وقع في مَعْرِض التشبيه، فهو على لِحَاظ ذهنيَ، كوجوب دِرْهمٍ في الأربعين في باب الزكاة، وكواحدة الوتر في بابه كلُّ ذلك لِحَاظٌ ذِهْنيٌّ. فإن سَمَحَتْ به قريحتُكَ، فَقِسْ عليه قوله صلى الله عليه وسلّم «فإنه لا صلاةَ لمن لم يَقْرأْ بها»، فإنه أيضًا لِحَاطٌ ذهنيٌّ. أَلا تَرَى أنه نهى عن صيام الدهر، ثم نزَّل الثلاث من كل شهرٍ منزلة صيام الدهر، فهل تراهما يلتقيان على نقطةٍ واحدةٍ؟ كيف وإن حديثَ النهي يُوجِبُ الكفَّ عنه، وحديث التشبيه يقتضي فضله أيّ فضلٍ.

والوجه فيه: أن حديثَ النهي وَرَدَ على شاكلة بيان المسألة، وحديث التشبيه تنزيليٌّ، وكاشفٌ عن لِحَاظ ذهنيَ فقط. فهكذا في حديث عُبَادة: «نهاهم أولا عن القراءة خلف الإِمام، وقال: فلا تفعلوا - أي القراءة خلف الإِمام - ثم استثنى منه الفاتحة، وقال: إلا بأمِّ القرآن». فهي على الاباحة، بل الإباحةُ المرجوحةُ قطعًا، ولا رائحةَ فيه للوجوب. ثم علَّله، وقال: فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها»، فهل يناسب عندك تعليل الإباحة بما يفيد الوجوب وهل هذا إلا تناقضٌ؟ بل المعنى أنه حَكَمَ أولا بإِباحة الفاتحة، ثم ذَكَرَ لها لِحَاظًا ذهنيًّا، ووصفًا اعتباريًا، أوجب تحمُّلها للمقتدي، وقراءته إيَّاها في موضعٍ وَجَبَ له الإِنصات.

واللِّحَاظُ الذهنيُّ لا يَجِبُ أن يتحقَّقَ في ذلك الموضع بخصوصه. بل كون الفاتحة بهذا الوصف، وإن كان باعتبار المُنْفَرِدِ أو الإِمامِ، جوَّزَ لنا أن نُلاحِظَ فيها هذا المعنى، ونقول بجواز قراءتها للمقتدي، نظرًا إليه.

وقد صرَّح أحمدُ عند الترمذيِّ، وسُفْيَان، عند أبي داود: أن قوله صلى الله عليه وسلّم «لا صلاةَ لمن لم يَقْرَأْ بأمِّ القرآن»، في حقِّ المنفرد، فتحقَّق هذا الوصف في المُنْفَرِد، ولِحَاظُه في حقِّ المقتدي أيضًا. ولعلَّك فَهِمْتَ الآن أن اللِّحَاظَ الذهنيَّ غيرُ الحكم، فإن الحكمَ مسألةٌ، واللِّحَاظُ الذهنيُّ اعتبارٌ مَحْضٌ. ومن لا يفرِّق بين هذين يَخْبِط خَبْطَ عشواء، ويجعل اللِّحَاظَ حكمًا ومسألةً، ويَقَعُ في الأغلاط (٢).


(١) يقول العبدُ الضعيفُ: وهذا كقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: ١٤]، فكون الصلاة للذكر لِحَافظٌ ذهنيٌّ، والمطلوبُ هو الصلاةُ، لا أن المطلوبَ هو الذكرُ فقط، والصلاةُ آلةٌ له تحقَّقت أو لا. وهكذا ذكره الحنفيةُ: أن الخروجَ بصُنْع المُصَلِّي فرضٌ، فإنه لِحَاظٌ ذهنيٌّ فقط، فإن المقصود من التسليم هو ذلك. ونحوه لهم: إن الصيامَ لقمع النفس. فإذا نُقِلَ اللِّحَاظ الذهنيُّ إلى العمليِّ يَفْسُدُ المعنى. ثم إن ما قُلْنَا لك: إن الخروجَ بصُنْعِ المصلِّي لِحَاظ ذهنيٌّ، ليس مما اخْتَرَعتُه من نفسي، بل سَمِعْتُهُ من شيخ -في درس الترمذي- وقد قرَّرته في موضعه، وإنما أرَدتُ ههنا التنبيهَ على جواب، قوله: "وتَحْلِيلُها التسليمُ" بطريق الإِشارة.
(٢) يقول العبدُ الضعيفُ: وقد فَهِمْتُ تقرير الشيخ هذا بعد زمنٍ طويلٍ، وتَدَبُّر تامٍّ. ففكِّر فيه أنت أيضًا، فإني قد بيَّنته حسب ما استطعتُ. فإن خَفِيَ عليك شيءٌ بَعْدْ، فلا تَتَسرَّع بالردِّ والقَبُول، ولكن عليكَ أن تَتَفَكَّر فيه ثانيًا وثالثًا، حتى يَنْجَلي لك الحالُ. ويمرُّ عليك مثله في هذا التقرير كثيرًا، فعليك بالصبر، فإنه مفتاح الفرج.

<<  <  ج: ص:  >  >>