للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

النبيُّ صلى الله عليه وسلّم المدينة كان ربيع الأول. فكيف أن يكونَ هذا اليوم يوم عاشوراء؟ وقد أَجَبْتُ عن الإِشكالين في مقالةٍ لي بمجلة «القاسم» مبسوطًا، فلتراجع (١).


رسالةٌ عَذرَاء، في تحقيق يوم عَاشُورَاء
(١) يقول العبدُ الضعيفُ: وقد كان بعضُ الجَهَلَةِ أوْرَدُوا إيرادات على عَاشُورَاء، فأزاحها الشيخُ في صورة رسالة، وأنا أُعْرِبُها لك لعلَّ اللهَ تعالى يَنْفَعُكَ بها وإياي. قال رحمه الله:
أما بعدُ: فإن هذه عدَّة سطورٍ، وأشتات جمل، لحل بعض إشكالات تتعلَّق بيوم عَاشُورَاء، قَصَدُت منها تحقيق المقام لا غير، والله التوفيق.
فاعلم أن عَاشُورَاء هي عاشر المحرَّم حسب ما اقتضته الأحاديث، وأجمعت عليه الأمةُ المرحومةُ. قال في "عمدة القاري": وهو مذهبُ جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم. اهـ. قال الزَّرقَاني: وقال القاضي، والنووي: الذي تَدُلُّ عليه الأحاديثُ كلها أنه العاشر، وهو مُقتَضَى اللفظ. اهـ.
ورُوِيَ عن الحسن بن عباس عند الترمذي، قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوم يوم عَاشوراء، اليوم العاشر". اهـ.
وقال في "عمدة القاري": ومنها ما رواه البزَّار من حديث عائشة بلفظ: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بصيام عَاشُورَاء يوم العاشر"، ورجاله رجال الصحيح. اهـ. وحديث "صحيح مسلم" عن الحَكَم بن الأَعْرَج، قال: "انتَهيتُ إلى ابن عباس، وهو متوسِّدٌ رِدَاءَهُ في زَمزَم، فقلتُ: أَخبِرني عن يوم عَاشورَاء، أي يوم أصُومُه؟ قال: إذا رَأَيتَ هلال المُحَرَّم فاعْدُد، ثم أَصْبحْ من اليوم التاسع صائمًا. قلت: أهكذا كان يصومه محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم". اهـ.
قلتُ: الجواب فيه على أسلوب الحكيم، حيث لا خفاء في تعيين عَاشُورَاء، فإنه العاشر قطعًا. نعم كان الأهمُّ عنده بيانَ صوم التاسع أيضًا، فتعرَّض إليه، وهو الأسلوب في قوله: "أهكذا كان يَصُومُه محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم". اهـ. حيث نَزَّلَ فيه تمنِّي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بصوم التاسع منزلةَ صومه فيه، وإلَّا فلم يَصُمْهُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قط. ويَدُلُّ عليه سياقُ الطحاويِّ: "قلتُ لابن عباس: أَخبِرْني عن يوم عاشُورَاء، قال: عن أيِّ باله تَسْأَلُ؟ قلتُ: أَسْأَلُ عن صيامه، أيِّ يومٍ أصُومُ؟ قال: إذا أصبحت من تاسعه فأَصْبِحْ صائمًا" ... الحديث.
قال في "عمدة القاري": فإن قلتَ: هذا الحديث الصحيح يقتضي بظاهره أن عاشورَاء هو التاسع. قلتُ أراد ابن عباس من قوله: فإذا أَصْبَحْتَ من تاسعه فأَصبح صائمًا": أي صُم التاسع مع العاشر. وأراد بقوله: "نعم": ما روى من عزمه على صوم التاسع من قوله: "لأَصُومَنَّ التاسع". وقال القاضي: ولعل ذلك على طريق الجمع مع العاشر، لئلا يتشبَّه باليهود، كما وَرَدَ في روايةٍ أخرى: "فصوموا التاسع والعاشر"، وذكر رزين هذه الرواية عن عطاء عنه.
وقيل: معنى قول ابن عباس: "نعم"، أي نعم يَصُومُ التاسع، لو عاش إلى المُقبِلِ. وقال أبو عمر: وهذا دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يَصُومُ العاشر إلى أن مات، ولم يَزَل يَصُومُهُ حتى قَدِمَ المدينة، وذلك محفوظٌ من حديث ابن عباس.
وقال في "فتح الباري": ثم ما هُم به من صوم التاسع، يحتمل معناه: أنه لا يَقْتَصِرُ عليه، بل يُضِيفُه إلى اليوم العاشر، إمَّا احتياطًا له، وإمَّا مخالفة لليهود والنصارى، وهو الأرجح، وبه يُشْعِرُ بعضُ روايات مسلم. ولأحمد من وجهٍ آخر، عن ابن عباس مرفوعًا: "صُومُوا عَاشُورَاء، وخَالِفُوا اليهود، صُومُوا يومًا قبله، أو يومًا بعده"، ونحوه عند الطحاوي أيضًا. وكان ابنُ عباس نفسه يَصُومُ التاسع والعاشر. وقال في "عمدة القاري": ورُوِيَ عن ابن عباس: "أنه كان يَصُومُ اليومين خوفًا من أن يفُوتَهُ، وكان يَصُومُهُ في السفر". اهـ.
فظهر أن ابن عباس إنما صَامَ التاسعَ والعاشرَ، لأنه عَلِمَ عَزمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على صوم التاسع من القابل، ولأنه يَحصُلُ منه الأمن عن فوات فضل عَاشُورَاء عند الاختلاف في هلال المُحرم. ولا تَزَاحُم في "الفوائد". ومعلومٌ أن الجوابَ على أسلوب الحكيم، طريقٌ مسلوكٌ عند البلغاء، وعليه حَمَلَ العلماءُ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: ١٨٩]. فإن السؤالَ كان عن علة اختلاف صُوَر القمر، والسرُّ في ازدياده وانتقاصه، =

<<  <  ج: ص:  >  >>