للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولا يحاشى، ومنهم من يكونُ على عكسِه فيزداد في الطاعات، ألا ترى أن كثيرًا من الدُّعَّار واللصوص يفسدون في الأرض، ويعلمون كالشمس في نصف النهار أنهم يعُذَّبون بأصناف من العذاب، ثم لا يتوبونَ وذلك لِغلَبَةِ الشهوة والهوى فيهم.

وبالجملة الإقدام على المعاصي لا يوجب النقصان في التصديق الذي هو مدار النَّجاة.

ومن أقوى شبه المُرْجئة أن المؤمنَ العاصي لو دخل جهنم لزمَ دخولُ الإيمان فيها، وإذا لم يدخل الكفرُ في الجنة، فكيف دخل الإيمان في جهنم؟ والجواب: أن العاصي إذا دخل في النار يُنْزَعُ عنه إيمانه ويوضُع عند باب النار؛ كما يُنْزَعُ اليومَ ثياب المجرم عند باب السجن، ثم إذا خرج من سجنه يُعطى ثيابَه. كذلك المؤمن يُنْزَعُ عنه الإيمان عند إلقائه في النار، ثم يُعطى إيمانَه بعد تعذيبه على قدر ذنوبه وإخراجه من النار.

وقد علمت سابقًا أن المصنف رحمه الله تعالى تعرض في هذا الباب إلى التخويف المجرد، ولم يرض بأن يأولَ الأحاديث التي أطلق فيها لفظ الكفر على المعاصي: بأنه على طريق التخويف دون التحقيق. وقد مر من قبل بعض ما يتعلق به فراجعه.

(كلهم يخاف النفاق) فمن أين جاز للمُرجئة أن يقعدوا مطمئنين بإيمانهم فعلى المؤمن أن يخافَ كل آن. أما اختلافهم (١) في جواز القول: بأنا مؤمنٌ إن شاء الله تعالى، فلا يرجع


(١) وفي عقيدة السفاريني واعلم أن الناس في جواز الاستثناء على ثلاثة أقوال: منهم من يوجبه، ومنهم من يُحرِّمه، ومنهم من يجوزُ الأمرينِ باعتبارين، وهذا الأخير أصح الأقوال، فالذين يحرمونه هم المرجئة، والجهمية، ومن وافقهم، ممن يجعلُ الإيمانَ شيئًا واحد يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأتُ الفاتحة، وكما أنه لا يجوزُ أن يُقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاكُّ وسموهم الشَّاكة. والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا أو كافرًا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكونُ عليه - وما قبل ذلك فلا عبرة به.
قالوا: والإِيمان الذي يتعقبُه الكفر فيموت صاحبه كافرًا ليس بإيمانٍ، كالصلاة التي يُفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، فصاحب هذا هو عند الله كافرٌ، يعلمه بما يموت عليه وكذلك قالوا في الكفر. انتهى مختصرًا.
ثم قال: والذين قالوا بالموافاة جعلوا الثبات على الإيمان إلى العاقبة والوفاء به في المآل شرطًا في الإيمان شرعًا، لا لغةً، ولا عقلًا، حتى إن الإمام محمد بن إسحاق ابن خزيمة كان يغلو في هذا ويقول: من قال: أنا مؤمن حقًا فهو مبتدع: قال شيخ الإسلام: ومذهب أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه، والثوري، وابن عُيَينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطَّان، فيما يرويه عن علماء البصرة والإمام أحمد بن حنبل، وغيره من أئمة السنة: كانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواترَ عنهم، لكن ليس في هؤلاء من قال: إنما أستثني من أجل الموافاة، وأن الإيمان إنما هو اسم لما يُوافى به، بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمانَ يتضمنُ فعلَ جميع الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم. =

<<  <  ج: ص:  >  >>