للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كانوا يَزْنُون بامرأةٍ واحدةٍ، فإذا أَتَتْ بولدٍ وادَّعَاهُ واحدٌ منهم، ثَبَتَ عندهم نَسَبُهُ منه، وكان يُلْحَقُ به فإذا أشرف عُتْبَة على الموت - وهو الشقيُّ الذي أُصِيْبَ منه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ما أُصِيبَ يوم أحدٍ، ومات على الكُفْر - أَوْصَى أخاه سعد بن أبي وقَّاصٍ على عادتهم في الجاهلية: أنه زَنَى بوليدة زَمْعَة، وولدها منه، ليأخذه بعد وفاته، فإنه ابن أخيه. فلمَّا وَلَدَتْهُ، أراد سَعْدُ أن يأخذَ ابن أخيه. وأبى عبد بن زَمْعَة أن يُعْطِيه، فإنه كان أخوه وابن أبيه، فَتَخَاصَمَا في ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقصَّا عليه أمرهما، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لعبد بن زَمْعَة: «هو لك»، ثم قال: «الولد للفِرَاش، وللعاهر الحجر». ولمَّا كانت تلك الوليدة فِراشًا، ومملوكةً لزَمْعَة، أَسْلَمَ وَلَدَها إلى أخيه، ولم يُلْحِقْهُ بعُتْبَة، وأمر لسَوْدَة بنت زَمْعَة أن تَحْتَجِبَ من هذا الولد الذي ادَّعاه عُتْبَة أنه منه. هذا مُلَخَّص ما في الحديث.


= وفي "المعتصر" في باب استلحاق الولد: ظَنَّ بعضُ الناس أن دعوى سَعْد لا معنى لها، لأنه ادَّعاها لأخيه من أَمةٍ لغيره بغير تزويج بينه وبينها، وحاشاه عن ذلك. ووجهُ دعواه: أن أولادَ البغايا في الجاهلية قد كانوا يُلحِقُونَهُمْ في الإِسلام بمن ادَّعاهم، وَيرُدُّونَهُمْ إليه. وقد كان عمر بن الخطَّاب يَحكُمُ بذلك على بُعدِ عهده بالجاهلية، فكيف في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع قُرْبةِ بها. فكاد يَحْكُمُ لأخيه المُوصَى بدعوة سعد. لولا مُعَارَضة عبد بن زَمْعَة بدعوةٍ تُوجِبُ عتاقة الولد، لأنه كان يَمْلِكُ بعضَه بكونه ابن أَمَةِ أبيه، فلمَّا ادَّعى أنه أخوه عُتِقَ عليه حظه، فهذا أبطل دعوة سعد فيه، لا لأنها كانت باطلة. ولم يكن من سَودَة تصديقٌ لأخيها عبد على ما ادَّعاه، فألزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أقرَّ به في نفسه، وخاطبه بقوله: "الولد للفراش"، ولم يجعل ذلك حُجَّة عليها، فأمرها بالحِجَاب منه. ولو جُعِلَ أخاها، لَمَا أَمَرها بالاحتجاب منه، مع الإِنكار على عائشة احتجابها عن عمِّها من الرَّضَاعة.
هذا محمل الحديث، والله أعلم.
ثم لا خِلَافَ أن من مات وبيده عبدٌ، فادَّعى بعضُ الوَرثَةِ أنه أخوه، لايَثبُتُ به النَّسَب من الميت، وَيدخُل مع المدعي في ميراثه أيضًا عند أكثر أهل العلم، ولا يَدخُلُ عند بعضٍ، منهم الشافعيُّ. ورُوِيَ عن عبد الله بن الزُّبَير، قال: "كانت لزَمعَة جاريةٌ يطؤها، وكان يَظُنُّ برجل يَقَعُ عليها، فمات زَمْعَة وهي حُبْلى، فَوَلَدَت غلَامًا كان يُشْبِهُ المظنون به، فذكرته سَودَةُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أمَّا الميراثُ، فله. وأما أنت، فاحتجبي منه، فإنه ليس بأخٍ لك".
ففيه نفيُ أخوَّته لِسَودة. وقوله: "أما الميراثُ، فله"، أراد به الميراث في حصة عبدٍ بإقراره، لا فيما سواه من تركة زَمْعَة.
قال القاضي أبو الوليد: الحقُّ أن الذي أبطل دعوى سَعد عِلمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفراش الذي ادَّعَاه عبد بن زَمْعَة لأبيه، إذ لا يَخفَى عليه بالصهورة التي كانت بينه وبينه. يُحَقِّقُهُ ما في حديث ابن الزُّبير: "كانت لزَمْعَة جاريةٌ يَطَؤها"، فحكم بذلك بقوله: "الولد للفراش"، وقال: "هو لك يا عبد بن زَمْعَة"، أي على ما تدَّعِيه من أنه أخوك. قوله: "هو لك"، أي بيدك عليه تَمنَعُ بذلك غيرك، كقوله في اللُّقَطَةِ: "هو لك، أو لأخيكَ، أو للذئب"،، ليس على معنى التمليك، وجَعلِ الميراث له، أي من جميع تركته. ولو لم يَثبُت نَسَبُهُ من زَمْعَةَ، لثبت نَسَبُهُ من عُتبةَ بادِّعَاءِ أخيه سَعد ذلك له بعهده إليه به، على ما كان الحكمُ به من إلحاق أولاد البغايا بمن ادَّعَاهُم. ولمَّا بَطَلَ ذلك بالعِتقِ الذي حَصَلَ له، بادِّعَاءِ عبد بن زَمعَة، إذ لا تأثيرَ للعِتقِ في إبطال دعوى النَّسَبِ، وأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَودَةَ بالاحتجاب من باب التورُّع، لأن حكمَ الحاكم لا يَنقُلُ الأمرَ عمَّا هو عليه في الباطن، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختَصِمُون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم ألحن بحُجَّتِهِ من بعضٍ ... الحديث. فاحتمل أن لا يكون الولد لزَمْعَة، لا سيَّما مع الشَّبَهِ البيِّن لعُتبَة، إذ الفراشُ علامةٌ، ودليلٌ قد يكون الأمر في الباطن بخلاف الدليل الظاهر. فلا يَحِلُّ لمن عَلِمَ منه خلاف ما حُكِمَ له به: أن يَستَبِيحَ بالحكم ما لا يجوز له على ما عَلِمَ من باطن الأمر، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>