للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إرادتهما معًا، فهو على سبيل المجاز ويتبينُ المرادُ بالسياق، فإن وردا معًا في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يردا معًا، أو لم يكن المقامُ مقامَ السؤال، أمكن الحمل على الحقيقة، أو المجاز، بِحَسَبَ ما يظهر من القرائن. ومحصَّلُ جوابه أن الإيمانَ والإسلامَ يفترقان إذا اجتمعا على صورة المقابلة، وحيث انفردا يكون أحدهما عينَ الآخر كما هو صنيعهم في المترادِفَات، فإنها إذا اجتمعت يفرَّق بينها في ذلك المقام خاصة.

وإذن فالفرق في حديث جبرائيل مقاميٌّ ولا يدل على أن الإسلام والإيمان متغايران حقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم بيَّنَ لوفدِ عبد القيس أن الإيمانَ هو الإسلام، حيث فسَّر الإيمانَ في قصتِهم بما فسرَّ به الإسلام ههنا. وفي ضمن الجواب استدل المصنف رحمه الله لمذهبه بالآية، بأنها صريحة في أن الدينَ والإسلام شيء واحدٌ فظاهر جوابه معارضُة وبعد الإمعان حُلّ. وقد يقرر الجواب بطريق آخر أيضًا: وهو أن الاتحادَ بين الدين والإسلام ثابت من الآية: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} [آل عمران: ١٩] واتحادَ الإسلام والإيمان ثابتٌ من حديث وفد عبد القيس فثبت اتحاد الكل.

والمصنف رحمه الله تعالى لم يفصِح بالجواب، وهذا دأبه كثيرًا في كتابه، حيث يذكرُ مادةَ الجواب ولا يفصِحُ بمراده.

أقول: وهذا الجوابُ غير مسقيمٍ، لأن التغايرَ المقاميُّ إنما يكون إذا كان اللفظان في عبارةٍ واحدة، وههنا لم يقع السؤال أولًا إلا عن الإيمانِ فحَسب، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم يعلمُ أنه سائل بعد ذلك عن الإسلام أيضًا حتى يجاب بالتغاير المقاميِّ. وإنما ذكر أولًا حقيقةَ الإيمان على ما كان عنده بدون نظرٍ إلى مفهوم الإسلام، حتى إذا سُئل ثانيًا عن الإسلام أيضًا أجابه كذلك، فالجواب بالفرق باعتبار المقام لا يمشي ههنا.

نعم، لو كان هناك سلسلة الأسئلة في عبارة واحدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم أجابَ عنها أيضًا كذلك لكانَ له وجه. فالوجه عندي: أن الجواب إنما يُلقى على السائل بقدرِ علمِهِ وفَطَانته، وسؤالُ جبرائيل عليه السلام وكذا حالُهُ لمَّا دلا على كمال فَطَانته، أجابه مفصلًا بذكر حقيقة كلٍ على حدة، بخلاف وفد عبد القيس فإن ضِمَام بن ثعلبة كان حديثَ العهد بالإسلام، فاكتفى في جوابه على الإجمال ولم يلتفت إلى بيان الحقائق.

وحاصله: أنه راعى حال المخاطُب في كلا الحديثين، كما أن الذي يعظُ الناسَ يراعي ما يحرِّضُ على العمل، فربما يذكر الضَّعاف من الأحاديث عند الترغيب والترهيب ولا يفصِّلُ في كلامه، ويقول: تارك الصلاة كافر، ولا يقول: كافر بكفرٍ دون كفر. بخلاف المعلم الذي يتصدى لإظهار الحقائق فيذكر حقيقةَ الأمرِ ويُنَبِّه على المسامحات، ويفصِّلُ في المتعلَّقات. فحاصل حديث جبرائيل عليه السلام: إعطاء العلم، وبيان الحقيقةِ كما يفعلُ المعلم وهو الأقرب بسياقه، بخلاف حديث وفد عبد القيس فإنَّ حاصِلَه التحريضُ على العمل، وفي مثله يتمشَّى على الإجمال فيُتسامحُ في البيان.

<<  <  ج: ص:  >  >>