للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلتُ: وهذا الجواب باطلٌ لا يُلْتَفَتُ إليه، ولم يَزَلْ مَطْعَنًا للخصوم منذ زمنٍ قديم. ولمثل هذا اشْتَهَرَ أن الحنفيةَ يُقَدِّمُون الرأيَ على الحديث. وحَاشَاهُم أن يَقُولُوا بمثله، فإن هذه المسألة لم يَصِحَّ نقلها عن أبي حنيفة، ولا عن أحدٍ من أصحابه. نعم نُسِبَتْ إلى عيسى ابن أَبَان - المعاصر للشافعي - وهي أيضًا محلُّ تردُّدٍ عندي. كيف وقد قال المُزَني: إن أبا حنيفة أَتْبَعُ للأثر من محمد، وأبي يوسف. فلعلَّ تكون بين يديه جزئياتٌ، ومسائلُ تَدُلُّ على هذا المعنى.

وبالجملة هذا الجواب أَوْلَى أن لا يُذْكَرَ في الكُتُبِ، وإن ذكره بعضُهم، ومن يَجْتَرِيءُ على أبي هُرَيْرَة فيقول: إنه كان غيرُ فقيهٍ؟ ولو سلَّمنا، فقد يَرْويه أفقههم، أعني ابن مسعود أيضًا، فيعود المَحْذُورُ. وأجاب عنه الطحاويُّ بالمعارضة بحديث: «الخَرَاج بالضَّمَان» (١).


= بحديثٍ لوجوهٍ لاحت لهم، أو من أجل سُنَّةٍ تقرَّرت عندهم، أَرَىَ الخصومَ يَرْمُونَهم بردِّ الحديث، فهذا من تحامُلِهم علينا. أَلَا ترى أن الترمذيَّ ذكر في "علله الصغرى" أني ذكرت حديثين صحيحين في كتابي لم يَعْمَل بهما أحدٌ من الأمة، وما ذلك إلَّا لعدم إدراكهم وجههما. والسرُّ في ذلك: أن عمل المجتهد بحديثٍ لا يكون كعمل المقلِّد به، فإنه يَنظُرُ إلى معانيه، ومبانيه، وعلله، وسائر أسبابه، وأنه هل يَرْتَبِطُ مع سائر الأصول، أو يُنَاقِضُها، فتارة يعمِّمُه، وأخرى يُخَصِّصُه.
وبالجملة ليس دَأبُه العملَ بالجزئيات المنتشرة على أي وجهٍ وُجِدَتْ، إنما هو وظيفةُ المقلِّد، أي العمل بالجزئيات المنقولة عن إمامه، وإنما همُّ المجتهد في إرجاع الجزئياتِ المتناسبةِ إلى أصلٍ واحدٍ، ودَرْجِهَا تحت ضابطةٍ تُنَاسِبُها. وكذا دَأبُه مع الأصول، ليس رَدَّ بعضها على بعضٍ، فمراعاة التَّوَافُق بين الأصول، وإلحاق الجزئيات بضوابطها من وظيفة الاجتهاد، وليس من وظيفته أنه إذا مرَّ بحديثٍ عَمِلَ به بدون إمعانٍ في معناه ومبناه، وقد وَجَدْنا نحوه بين السلف أيضًا. فإن أبا هُرَيْرَة لمَّا روى حديث الوضوء مما مَسَّت النار، قال له ابن عباس: "أَنَتَوَضَّأُ من الحميم، أَنَتَوَضَّأُ من الدهن؟! وما ذلك لإِمعانه في معنى الحديث، وحاشا أن يُعَارِضَ حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ.
ونظيرُه النزولُ في الأَبْطَح، ذهب بعضُ الصحابة إلى استحبابه، وقال آخرون: إنه ليس من النُّسُك في شيءٍ، وإنما كان مَنْزِلًا نزله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإنما أَطْنَبْتُ فيه الكلامَ لأني وَجَدْتُ كثيرًا من الناس لا يفرِّقون بين الوظيفتين، فَيُلْزِمُون المجتهدَ ما يَلْزَمُ على المقلد. وقد نبَّه عليه الحافظ فضل الله التُورِبِشتِي في ذيل كلامه في مسألة الإشعار، في باب الحج. وهو مهمٌّ جدًا، فلذا اعْتَنَيتُ به، ليعلمه من لم يَعْلَمْ، وَيعْمَلَ به من لم يَعْمَل، فلا يُطِيلُ لسانه على الأئمة المجتهدين في مواضع الخلاف، والله تعالى أعلم بالصواب.
(١) قلتُ: وحاصلُه: أن اللبنَ الذي احتلبه المشتري قد كان بعضُه في مِلْكِ البائع قبل الشراء، وحَدَثَ بعضُه في مِلْكِ المشتري، فلا يَخْلُو أن الصَّاعَ الذي تُوجِبُه على مشتري المُصَرَّاة أن يَرُدَّه إلى البائع، إمَّا أن يكون عِوَضًا عن مجموع اللِّبَنِ، أو عمَّا كان في وقت وقوع البيع خاصةً. فإن كان الأوَّلُ يَلْزَمُ عليك أن لا يكون الخَرَاجُ بالضَّمَانِ، فإن اللِّبن الذي حَدَث في مِلْكِ المشتري لكونه في ضمانه يكون له على حديث: "الخَرَاج بالضمان"، فكيف يتحمَّل المشتري صاعَ التمر، عِوَضًا عنه. ألَا ترى أنه لو رَدَّها على البائع بعَيْبٍ غير التحفيل، لا ضمانَ عليه عند الشافعية لمَّا شَرِبَ من لبنه، لهذا الحديث، فما له يتحمَّل الغرامةَ في عيبِ التحفيل؟ وإن كان الثاني -أي ذلك الصاع- عِوَضًا مما كان في ضَرْعِها وقت البيع، يَلْزَمُ عليك بيع الكائي بالكائي، وقد نهى عنه، وذلك لأن هذا اللبن ليس ملكًا للمشتري، لا بحكم البيع، ولا بحكم الحديث: الخراج بالضمان، فيكون للبائع، فإذا شربه المشتري، وأتلفه صار دينًا في ذمته لنقض البيع، وكذا صار الصاع أيضًا دينًا عليه، عوضًا عنه، وهذا هو بيع اللبن بالصاع دينًا، وهو غير جائز مطلقًا، فعلى أي الوجهين كان يلزم عليك ترك أحد الحديثين، إما حديث: =

<<  <  ج: ص:  >  >>