للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

شَرْح مسلم فقال: إنَّ نفخةَ الصَّعْقةِ تكونُ لإِماتة الأحياء ساعتئذ. وأما الذين قد ماتوا، فيُغْشَى على أرواحِهم، فيصيرونَ كالموتى.

وحاصله أنه لا يبقى شيء إلا ويتأَثَّر منها، فإِنْ صَلَح للَفناء يَفْنَى، وإن لم يصلح له، كالأرواح، فإِنها حياة مَحْضَةٌ، يُغْشى عليهم ثُم يستمرُّون على هذا الحالِ إلى أربعينَ سنةً، ثُم تُنْفخ فيه أخرى. فإِذا الأمواتُ يصيرونَ أحياءً، والأرواحُ مُفِيقاتٌ، وظَهَر منه أنًّ الصَّعْقةَ في القرآنِ اشتملت على الأمْرَين: الموت للأحياء، والغُشيء للأَرْواح. وحينئذٍ لا يلزمُ مِن دخول موسى عليه الصلاة والسلام في الاستثناء عَدَمُ وفاته، بل عدم غُشْية فقط.

ومعنى الحديث أنَّ الناسَ يَحْصُل لهم الموتُ أو الغُشي، فَيُغْشَى عليَّ أيضًا، وإن كان بين الغُشي والغُشي تفاوتٌ، فأكون أوَّلُ مَنْ يفِيقُ، وأنظر موسى عليه السلام أَنَّه باطشٌ بجانب العرش. فلا أَدْري أَنه كان فيمن غُشِي، فأفاقَ قبلي، أو كان مِمَّن استَثْنى ااُ، فلم يُغْشِ عليه. والشِّقُّ الثالث ههنا محذوفٌ، وهو أَنَّهُ حُوسِب بصَعْقَة على الطُّور. وكنت أردد فيه، لأنَّ ادِّعاء غُشْي الأرواح إلى مدةٍ مديدة لا بدَّ له من روايةٍ، أو قولٍ من السَّلف. وتَسْليمُه بَقوْل القُرْطبي عسيرٌ، لكونه إخبارًا عن الحقائق الغائبة. ثُم اطَّلعت على رواية (١) فيها غُشْي الأَرواح أربعينَ سنةً. ولعل إسنادَه ضعيفٌ، مع هذا يكون لجوابه نفاذ. ومن ههنا تبيَّن وَجْه قوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس: ٥٢]، وقد تكلَّمنا عليه مرةً، وفيه أيضًا إشكالٌ، فإِنه يدلُّ على رُقودِهم في القبور، والأحاديثُ وَرَدَتْ بعذابهم، ودعائهم بالوَيْل والثُّبور.

وحاصل الجواب أنه حكايةٌ عن مُدَّة غُشيهم تلك، أي لو بقينا كذلك مَغْشيًّا علينا. ولم تحصل لنا الإِفاقةُ لكان أَحْسن. ثم إنَّ الآية تَرِد على القائلين بنَفْي السماع لدلالته على الرُّقاد، ونفي العذاب أيضًا، فماذا يصنعون بها؟ فلا بدَّ لهم مِن أن يذكروا لها وجهًا، فينبغي لهم أن يَطْلُبوا وجها لآية نفي السَّماع أيضًا. فإِنَّ العذابَ كما أنه متحقِّق، كذلك السماع أيضًا متحققٌ، فلا يُغُترُّ بأمثال هذه النصوصِ، فإِنَّ لها وجوهًا ومعاني.

والجواب الثاني ما ذكره الشَّاه عبد القادر في «فوائد القرآن»: وحاصله أنَّ الحديث غيرُ مُقْتبسٍ من القرآن. فما ذُكِر في الحديث نَفُخةٌ أخرى، وما في القرآن نفخةُ أخرى، فالنفخةُ (الأولى) للإِماتةِ، والثانية للإحياء، والثالث للفَزَع، والرابع للغُشي، والخامس للإِفاقة، والثلاثةُ الأخيرة


= حكاه النوويُّ-: إن حديثَ الباب من أَشْكل الأحاديث، لأن موسى مات، فكيف تدركه الصَّعقة، وإنَّما تُصعق الأحياء؟ ثم أجاب عنه: بأنَّهُ يُحتمل أن هذه الصَّعقةَ صَعقةُ فَرْز بعد البعث، حين تَنْشقُّ السمواتُ والأرضُ، فتنتظم حينئذٍ الآياتُ، والأحايثُ، ويؤيدُه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فأفاق" لأنه يُقالُ: أفاق من الغشي، وأما الموتُ فيقال: بُعِث منه. وصَعْقَة الطَّور لا تكون مَوْتًا. اهـ. "النووي" من -باب فضائل موسى عليه الصلاة والسلام-.
(١) قلت: وفي الفَصْل الأول من "المشكاة" عن أبي هريرة -مرفوعًا- قال: ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت ... الخ. وهو حديثٌ متفق عليه. فلا أدري لماذا وقع مني الخبط عند الأَخْذ، ولعَمْري ربما أتضجُّرُ مِن مِثْل هذه الأمورِ، وألوم نفسي، فإِني قرأت مرارًا ثم لم أصنع شيئًا. والله الهادي والملهم للصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>