للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الجوارح بالطفرة، وتَرَك العَزْم من البَيْن، فتردد فيه النظر؛ أنَّه داخِلٌ تحت حُكْم الغاية، أو المُغَيَّا؟ فذهب بَعْضُهم إلى أنه عَفْوٌ، وتَوهَّم أنه داخِلُ في حُكْم المُغَيا؛ وهذا باطل قطعًا، كيف وإنه إذا لم يُذكر له حُكْمٌ في الحديث نصًا، فما الدليلُ على أنه داخِلٌ تحت حُكْم المَغيَّا؟ لِمَ لا يجوز أن يكون داخِلا في حُكْم الغاية، ويكون المعنى ما لم يَعْمل أو يتكلَّم أو يَعْزِم.

وإنما يَحْدُث الإِشكالُ في مِثْل هذه المواضع، لأن الحديث قد لا يكون حاويًا على جميع الشقوق، فيأتي واحدٌ منهم، وتعتريه به عجلةٌ، فيزعمه حاويًا على جمعيها، ثم يستنبط منه حُكْمًا للشِّقَّ المسكوتِ عنه أيضًا حسب زَعْمه، فيقع في مناقضةٍ من التواتر من فِعْله. وهذا ظُلْمٌ وتعسُّف، فإِنَّ مَنْشأه ليس إلا ظِنُّه الفاسد، أو العجلةُ التي أخذته؛ كما رأيت في الحديث المذكور، أنه لم يتعرَّض إلى العَزْم، وإنما بيّن حُكم سائر الوساوس، فكبُر على بَعْضِهم أن لا يكون له في الحديث حُكْم، فجعله حاويًا على جميع الشُّقوق، ثُم أخذ منه حُكْم العَزِم أيضًا، لكونه من متناوَلاتِ الحديثِ على ظَنِّه، فحكم عليه بكونِه عَفْوًا، مع أن المعروف عند الشَّرْع خِلافُه، وجماهير العلماء قد ذهبوا إلى المؤاخذةِ عليه أيضًا.

ثم المشهور في شَرْح الحديث؛ أنَّ الوَساوسَ لا تخلو إمَّا أن تقع فيما يكون مِن جنس الأقوال، أو الأفعال؛ فإِنْ كانت من النَّحْو الأَوَّل، فإِنَّها لا تُؤخذُ بها حتى تتكلَّم؛ وإن كانت من الثاني فأيضًا كذلك، إلا إذا عَمِل بها؛ وحينئذٍ لا تُكْتب لكُلِّ نوع منهما إلا معصيةٌ واحدةٌ.

وقد كان خَطَر ببالي شَرْحٌ آخر، فَعَرَضْتُه على مولانا شيخ الهند، وهو أنَّ ما كان من قبيل الوساوس إذا بلغ إلى حَدِّ العمل فَعَمِل به، ثُم تكلَّم، فإِنَّه اقترف مَعْصِيتين: معصيةً للعمل؛ ومعصيةً أُخْرى للتكلُّم بها، وهذه مغايرةٌ للأُولى، وذلك لأن الله تعالى قد أَمَرَه بِسِتْرها، فإِنَّ الله تعالى لا يُحِبُّ الجَهْر بالسواء، إلا مَنْ ظلم، فلما افْتَات عليه، وجَهِر بها، استحق أَن تُكْتب له معصيتان، وحينئذٍ مرادُ الحديث أَنَّ الوَساوِس مَعْفوُّ عنها، إلا إذا عَمِل بها، فإِنها تُكتب له معصية، فإِنَّ تكلَّم بها تُكْتب له معصية أُخرى، لكونها أَحْرَى بالتستُّر. فهذا تَجَاسُرٌ منه، ووقاحةٌ بَيِّنةٌ، فما أليقَ بأن تُكتب له معصيتان: معصيةٌ للعمل، ومعصيةٌ للتكلُّم؛ وعلى هذا التقرير تتعلق معصيتان على ارتكاب أَمْرٍ واحد، الأُولى لاقترافِه سيئةً، ومعصيةٌ أخرى للتكلم. ولعلك عَلِمت الآن الفَرْق بين الشَّرْحين، وأن الحديث ساكتٌ عن حُكْم العَزْم، لا أنه مَعْفُوُّ عنه، كما زعم.

هذا ما سمعت في العزم الذي هو من مبادىء أفعال الجوارح؛ وأما العَزْم الذي لا يتعلَّق بأفعال الجوارح، بل هي من معاصي القلب، كالعَزم على الأخلاق الفاسدة نحو: الحِقْد، والكِبْر، فتؤاخذ عليها أيضًا، إلا أنها ليست مذكورةً في هذا السياق، ولم يتعرَّض إليها الحديث أَصْلا؛ وإنما الحديثُ في الوَساوس التي تَقعُ مبادىءَ لأفعال الجوارِح، كالزِّنا، والسَّرقة، فإِنَّهما من أفعال الجوارح قطعًا؛ وهذه الوساوس من مبادئها، ألا ترى أنَّ الإِنسانَ إذا تمنى فاحشةً تتحدَّثُ بها نفسه أولا، وقد تَخْطُر بباله، وأُخْرى تَهْجِس في نفسه هَجْسًا، وقد

<<  <  ج: ص:  >  >>