للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وجبت الدِّيَّةُ على المدَّعي عليهم، وإلا يتوجَّهُ اليمينُ علي المُدَّعَى عليهم، فإِنْ حَلفوا تَسْقُط عنهم الدِّية. ثُم إنه لا قِصاص عندنا، وعند الشافعيِّ في صورة. وقال مالك ابنُ أنس: إنَّ المين يتوجَّه أولا على أولياء القتيل، ليحلِفُوا على أَنَّ فلانًا قاتِلُه، ويُشْترط أن يبيِّنُوا سبب العداوةِ بين القتيل والقاتِل، فإِذا حلف خمسونَ منهم على أنَّ فلانًا قَتَله، وَبيِّنوا العدواةَ أيضًا يُقْتَصُّ منه، وإلا فيتوجَّه اليمينُ على المُدَّعَى عليهم، كمذهب الشافعي.

والحاصل أن اليمينَ يتوجَّه أَوَّلا على المُدَّعِي عند مالك، والشافعيِّ، غير أن مالكًا أوجب القِصَاص في صورةٍ، بخلاف الشافعيِّ، فإِنه لا قِصاص عنده في صورةٍ، أما الإِمام الأعظم، فقد مشى فيها على الضابطةِ العامَّة، أن البينةَ على المُدَّعِي، والمينَ على مَنْ أنكر، فلم يقل ببدايةِ اليمينِ على المُدَّعين، ولكن يتوجَّه الحَلِف على المُدَّعَى عليهم، ولا قِصاص عنده أيضًا في صورةٍ، كما هو عند الشافعي، وهو مذهبُ عُمَر، واختاره البخاريُّ أيضًا، كما سيجيء في موضعه، وراجع «الجَوْهر النقي (١)» فإِنَّه تكلَّم عليه كلامًا جيدًا.

قوله: (فذهب عبدُ الرحمن يتكلَّم، فقال: كَبِّرْ كَبِّر) وإنما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يَسْمع القِصَّةَ، أولا من مُحَيِّصة، وحُوَيِّصَة، وإن كان حَقُّ الدَّعْوى لعبد الرحمن أخي القتيل، ثُم إذا يَبْلغ أوانْ الدَّعْوى يتقدَّم أخوه، ويدَّعي، كما هو الطريق المعروف، وإنما أَخَّره في سماع القصة، لكونِه أحدثَ القوم، يمكن أن لا يأتي بها على وَجْهها.

قوله: (فقال: اتحلِفُون وتستحِقُّون دم قاتلكم) ... الخ "كياتم جوهر قتيل كى اوليا" ... الخ، فيه حجَّةٌ للشافعيِّ، فإِنه وَجَّه المين أَوَّلا على المُدَّعيين، وعندي هو استفهامٌ فقط لا أنه صَرْف اليمين إليهم على شاكِلةِ القضاء، والمسألة، وإنَّما أراد به يقروا مِن عند أَنْفُسهم أنهم كيف يَحْلِفون، وهم لم يشهدوه، فإِنْ أنكروا عنه يقضي بيمين المُدَّعى عليهم، فإِذْن هو طريقُ كلامٍ، وخطاب، ولذا قالوا: كيف نَخْلِف، ولم نَشْهد؟ فدلَّ على أنه كان على طَوْر المجاراة مع الخَصْم لا غير، ولذا قال: فتبرِئكُم اليهودُ بخمسينَ يمينًا؟ فقالوا: كيف نأخذُ أَيْمانَ قوم كُفَّار؟ ... الخ، ولكنهم إذا لم تكن عندهم بينةٌ، وأَبَوا عن اليمين أيضًا لَزِمهم أن يرضوا بأَيْمان المدَّعَى عليهم لا محالة، وإنْ كانوا قومًا كاذبين، فإِنَّ الإِمام ليس عليه الاطلاعُ على الوقائع، وإنما يقضي على الضابطة، فإِذا أنكروا عن البينةِ واليمين، لم تبق صورة إلا القضاء بأَيْمانهم، وهذا الذي كان يريدُه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بتوجِيه اليمين إليهم، لينْكُلوا عنه، فينصرف اليمينُ إليهم، ولا يبقى احتمالٌ غيرُه، وي الروايات أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كتب إلى يهوِ خيبرَ أن يَحْلِفوا، فكتبوا إليه: إنَّك لو أمرتنا به نَفْعله، ولكنا لم نَعْلَم قاتِلْه، فودَاه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من بين المال، ولم يهدر دَمَه، وإنما فعل ذلك لأنه كان يومئذٍ بينه وبينهم صُلْحٌ، كما في بعض طرقه في «الصحيحين»، وتجِب الديةُ في بعض الصَّور على بيتِ المال عندنا أيضًا، وفيه دليلٌ للحنفيةِ على أن دمَ القتيل لا يُهْدَر بحال، بخلافِه عند الشافعيِّ، فإِنه لو حلف خمسونَ من المدَّعَى عليهم لا يجِب عنده ديةٌ، ولا قِصَاص.


(١) وسنذكر عبارته في بابه إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>