للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لما عفت عن مهرها رعاية لإعتاقه إياها. فكأن العتق حل محل المهر، وهو الذي عبر عنه الراوي بقوله: جعل عتقها صداقها. وإنما حسن هذا التعبير، لأن المهر إذا لم يتعلق به إعطاء، ولا أخذ في الحس، وحل محله الإعتاق منه - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه كان هو المهر في الحس، ولا بحث للراوي عن النظر الفقهي، وإنما ينقل ما شاهدته عيناه، ولم يشاهد، إلا أن النكاح كان بدل الإعتاق في الحس. وأما ما دار في البين من الاعتبارات، فلكونها نظرًا معنويًا، لم يلتفت إليه، وإليه يشير لفظ: جعل. فإنه للانصراف عن الأصل. فكأن العتق لم يكن مهرًا، ولكنه جعل مهرًا بنحو من الانصراف، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: ١٩] وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}، {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم يجعل شفاعكم فيما حرم عليكم" وقوله: "ومن جعل الله همومه همًا واحدًا" ففي كلها معنى الانصراف مراعى، ثم إنه كان أعتقها. ثم تزوجها تحصيلًا للأجرين، كما مر في "كتاب العلم". وفي الحديث لفظان: الأول: أعتقها وتزوجها؛ والثاني: جعل عتقها صداقها، والأول أقرب إلى نظر الحنفية، لأنه يدل على التزوج، بالطريق المعهود،. ومالنا أن نحمل التزوج على غير المعروف، والمعروف هو النكاح بالمهر. وأما قوله: جعل عتقها صداقها، فظاهره مؤيد للشافعية، وحاصل ما ذكرت أن وزانه وزان قوله:

وخيل قد دلفت لهم بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع

مر عليه عبد القاهر. وقرر أنه ليس من باب التشبيه، ولا من الاستعارة، بل هو من باب وضع شيء مكان شيء، وسماه بعضهم ادعاء، وليس بمرضي عندي، وقد مر تفصيله، فالإعتاق في الحديث وضح موضع المهر -كالضرب الوجيع- موضح التحية في القول المذكور، فاعلمه، ولا تعجل في إنكار ما لم تدركه.

ثم ما يقول (١) الشافعية فيما رواه النسائي ص ٨٦ - ج ٢، عن أنس قال: تزوج أبو طلحة


= واتفقوا على أن الملتقط لا يرث من اللقيط إلا ما يروى عن إسحاق بن راهويه، فحملوه على أن ميراثه يكون لبيت المال، ثم يكون هذا الرجل أولى بأن يصرف إليه ذلك من جانبه، إلا أن ماله لما عاد إليها -ولو بعد هذه الاعتبارات- عبر عنه الراوي بكونه ميراثًا لها، فإنه صار ملكًا لها آخرًا، كالميراث، لم تغيره هذه الاعتبارات -فالراوي لا يراعي التحويلات التي وقعت في البين، لأنها ربما تكون اعتبارات، ولكن يأخذ بالحاصل، وهو صنيعه في استقراض الحيوان بالحيوان، كما مر تقريره في "البيوع" وهذا الذي أراده من كون العتق والإسلام مهرًا.
(١) وفي "التمهيد" قال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والليث: لا يكون القرآن، ولا تعليمه مهرًا، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب، لأن الفروج لا تستباح بالأموال، لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ولذكره تعالى في النكاح -الطول- وهو المال، والقرآن ليس بمال، ولأن تعليم القرآن من المعلم والمتعلم يختلف، ولا يكاد يضبط، فأشبه المجهول، ومعنى أنكحتكها بما معك من القرآن، أي لكونه من أهل القرآن، على جهة =

<<  <  ج: ص:  >  >>