للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المؤمنين (١) وحملوها على الأول. أقول: وتقسيمُ النار وإن كان صحيحًا في نفسه لكنه لا يصلحُ شرحًا للحديث. وقد صح في الأحاديث اختلاف أنواع العذاب.

أقول: والصواب عندي أن الائتمارَ بالطاعات والانتهاء عن المعاصي مراعى ههنا أيضًا وإن حذف ذكره من العبادة، لأن الشارعَ لما فرغ من ذِكرها مرة وتفصيلها بابًا بابًا، والترغيب فيها طاعة طاعة، والتحذير عنها معصية معصية، فقد استغنى عن تكريره في كل موضعٍ، لأنه بيَّنَ وأكَّد لسليم الفطرة أن هذه الأشياء أيضًا دخيلة في النجاة عنده، فلم تبق له حاجة إلى القيود في كل مرة، وهو الطريقُ المسلوكِ في العرف، فإنهم يرون المعلوم كالمذكور، وإنما يستوفون الكلام فيما يتعسر انتقال الذهن إليه.

وإنما خصَّ الكلمةَ من بين سائر الأجزاء لكونها أساسًا وأصلًا ومدارٌ للحياة الأبدية، فهي المؤثرة حقيقة. والأعمال وإن كانت دخيلة في تحريم النار، إلا أن المُؤَثِرة فيها هي تلك الكلمة. ثم تلك الكلمة وإن كانت هي المؤثرة، لكنها لا غنية بها عن تلك الأعمال. فالحاصل أن تحريم النار وإن دار بالمجموع لكنه خُصَّ من هذا المجموع ما كان أهم من بينها، وهو تلك الكلمة كالأصل للشجرة، فإنه لا حياةَ لها بدون الأصل. ثم إن هذه القاعدة مُطَّردةٌ في جميع ما ورَدَ فيه الوعد والوعيد، فلا يتعرضُ فيه إلى وجود شرط ورفع مانع، فإنه يكون عنده ملحوظًا على كنهه. وإنما يذكر الكلام مرسلًا لظهوره.

ثم اعلم أن من فطرةِ الإسان أنه يجعلُ كلياتٍ من عند نفسه، وليس هذا إلا لعدم إحاطته بأطراف الشيء وجوانبه، وليس حال العامة كالطبيب، فإنه إذ يحكم على دوائه بأنه مفيد أو مضر، لا يحكم إلا بظنه الغالب، لكن إذا جاءَه واحدٌ من الأغبياء يجعله كليًا ويزعمُ أنه مفيد أبدًا ولا يمكن عنده خلاف ذلك، حتى إذا تخلَّف عنه الحكمُ مرةً يسبُّ الطبيب ويكذبُهُ، ولا يدري أنه لا يسبُّ إلا نفسه. فكذلك إذا أخبر الشارع عن أشياء غائبة وإن كان حكمُهُ عليها


(١) ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم في باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن ناسٌ منكم أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال بخطاياهم- فأمَاتَهم الله تعالى إماتَةً، حتى إذا كانوا فُحْمًا أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر -أي جماعات- فبثوا على نار الجنة" إلخ. قال النووي: هذه الأماتةُ إماتةٌ حقيقية يذهبُ معها الإحساس، ويكون عذابهم على قَدْر ذنوبهم ثم يميتهم، ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدة التي قدَّرها الله تعالى ثم يخرجون من النار موتى.
والوجه الثاني ما حكاه عن القاضي عياض: أنه ليس بموت حقيقي ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالآلام، قال: ويجوز أن تكون آلامهم أخف. انتهى مختصرًا جدًا. وقال الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح": ووقع في حديث أبي هريرة أنهم إذا دخلوا النار فإذا أراد الله تعالى إخراجَهم أحسَّهم ألمَ العذاب تلك الساعة. اهـ.
ووجدت فيه زيادة في تقرير الفاضل عبد العزيز أن فيه رواية في "البدور السافرة" تدل على أنهم لا يكون لهم حِسٌّ ما داموا في النار، فإذا أخرجوا أحسُّوه من ساعته كما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى، ففيه دليلٌ على تعدد النارين.

<<  <  ج: ص:  >  >>