للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إيمانَ البأس عنده مُفَسّر بالإِيمان عند الدخول في مقدّمات النَّزْع فقط. فَمَن شاهد عذابَ الاستئصال، وآمن لا يكون إيمانُه إيمانَ بأسٍ عنده، وإذ لا دليلَ على دخوله في مقدّمات النَّزْع، بل كلماته قد تُشْعر بخلافه. فإِذن ينبغي أن يُعْتبر إيمانُه على اصطلاحه. ولكنْ ذبَّ عنه الشيخُ الشَّعْراني، وهو من أكبر مُعْتَقديه، فقال: إنَّ كثيرًا عن عباراتِ «الفتوحات» مدسوسةٌ، وتلك المسألة أيضًا منها، لأن نسخة «الفتوحات» لابن السويكين موجدةٌ عندي، وليس فيها ما نسبوه إليه.

قلتُ: وابن السويكين هذا حَنَفي المذهب. وقد أبدى الشيخُ عبدُ الحقَّ في الشَّرْح الفارسي تعارُضًا بين كلامَي الشيخِ الأكبر. وحرر الدَّوَّاني رسالة في حمايته. وردَّ عليه على القاري في رساله سماها «فِرّ العَوْن من مُدّعي إيمان فِرْعون». وتكلم عليها بحر العلوم أيضًا في «شرح المَثْنَوي»، وحاصل مقاله: أنَّ إيمانَه معتبَرٌ عنده من حيثُ رَفْعُ الكفر، وإن كان غيرَ مُعْتَبر من حيثُ التوبةُ. وعندي رسالةٌ للبمباني في تلك المسألة، وكذا للمُلاّ محمود نفوري، فما أتيا فيها بشيءٍ يشفي الصُّدور. والبمباني هذا مُصنِّف «منتخب الحسامي»، و «الخير الجاري» وهو من علماء القرن الحادي عَشَر.

والذي أظن أنه من كلام الشيخ الأكبر وإنْ أنكره الشَّعْراني، لأني أَعْرف طريقَه، وأُميِّزُ كلامَه من غيره. وأما المسألة فهي عندي، كما ذهب إليه الجمهورُ، لأَنِّي أرى أَنَّ كُفْره قد تواتر بين الملّة على البسيطة كلها، حتى سارت به الأمثال (١). بقي قومُ يُونس،


= فرعونَ وآلَه، ورحمةُ الله تعالى أَوْسَعُ مِن أن لا يقبل إيمانَ المضطر، وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعونَ في حال الغرق، والله تبارك وتعالى يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: ٦٢] فقرن دعاءَ المضطر بالإجابة، وكَشْف السوء عنه، وهذا آمن لله تعالى خالصًا، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خَوْفًا من العوارض، وأن يحالَ بينه وبين هذا الإِخلاص الذي جاءه في هذه الحال، فرجح جانب لقاءِ الله تعالى على البقاء بالتلفظ بالإِيمان، وجعل ذلك الغَرَقَ نكالَ الآخرة والأولى، فلم يكن عذابه أكثرَ من غمِّ الماء الأُجاج، وقبضه على أحسن صفة، وهذا هو الذي يعطيه ظاهرُ اللفظ، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٢٦)} [النازعات: ٢٦] يعني في أَخْذه نَكال الآخرة والأُولى. وقَدَّم سبحانه ذِكر الآخرةِ على الأُولى ليعلم أنَّ ذلك العذاب، أعني عذاب الغَرَق، هو نَكال الآخرة، وهذا هو الفضل العظيم، انتهى.
(١) قال الشيخ الألوسي: وبالجملةِ ظواهِرُ الآي صريحةٌ في كُفر فِرعونَ، وعدمِ قَبول إيمانِهِ، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)} [العنكبوت: ٣٨ - ٤٠] فإِنَّه ظاهِرٌ في استمرار فرعونَ على الكُفْر والمعاصي الموجبة لما حلَّ به، كما يدلُّ عليه التعبيرُ بـ: "كان" والفعل المضارع، ومع الإِيمان لا استمرار، على أن نَظْمه في سِلْك مَنْ ذُكر معه ظاهِرٌ أيضًا في المدعي. وقد صَرحوا أيضًا بأن إيمانَ البأس واليأس غيرُ مقبول، ولا شك على أنَّ إيمانَ المخذول كان من ذلك القبيل، وإنكاره مكابرة، وقد حُكي =

<<  <  ج: ص:  >  >>