للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فالنصُّ شاهِدُ على اعتبار إيمانِهم بعد مشاهدةِ عذابِ الاستئصال أيضًا، فإِما أَنْ يُقال بالتخصيصِ، أو تحرُّر المسألة على نحو آخر، وهو على ما أقول: إنَّ قومًا إذا آمنوا عند إحاطةِ عذاب الاستئصال، فلا يَخْلُو إما أن يُكْشف ذلك العذابُ عنهم، أو لا، فإِنْ كُشِف كما كُشف عن قومِ يُونس عليه السلام يُعتبرُ به، وإن لم يُكْشَف حتى هلكوا فيه لا يُعْتبر، نحو فرعون، وحينئذٍ يندفِعُ الإِشكال.

ومن ههنا ظهر الجوابُ عما يَرِد على روايةِ الترمذي: أن جبرئيل، لما رآه يقول: لا إله إلا الله دَسَّ الطينَ في فيه خشيةَ أنْ تُدْرِكه الرحمةُ. والاعتراض عليه بوجهين.

الأول: أنه سعى في كُفْر رَجُلٍ، وهو رضاءٌ بالكُفْر، فكيف ساغ له؟!.

والثاني: أن إيمانَه في هذا الحينِ إنْ كان مُعْتبرًا، فلم حالَ دونَه، وإلَّا فما الفائدةُ في الدسِّ؟.

قلتُ: أما الجواب عن الأَوَّل: فبأنَّ الدعاءَ بسوءِ الخاتمة جائِزٌ في حقِّ مَنْ كان يؤذي المؤمنين (١)، ويَقْعد لهم كلَّ مَرْصد، كما نُقِل ذلك عن إمامنا، بل هو صريحٌ في


= الإِجماع على عَدم القَبول، ومستندُهم فيه الكتابُ والسنة. وفي "الزواجر" أنه على تقدير التسليم لا يضرُّنا ذلك في دَعْوى إجماع الأمة على كُفْر فرعون، لأنا لم نَحْكُم بكفره لأَجْل إيمانه عند البأس فحسب، بل لما انضمَّ إليه مِن أنه لم يؤمن بالله تعالى إيمانًا صحيحًا، بل كان تقليدًا مَحْضًا، بدليل قوله: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: ٩٠] فكأنه اعترف بأنه لا يعرفُ اللهَ تعالى. وأيضًا لا بدَّ في إسلام الدَّهْري ونحوه ممن قَدْ دان بشيء أن يقر ببطلانِ ذلك الشيء الذي كفَر به، فلو قال: آمنتُ بالذي لا إله غيرُه لم يكن مسلمًا، وفرعونُ لم يعترف ببطلان ما كان كَفَر به مِن نفي الصانع، وادعاء الإلهية لنفسه الخبيثة. وعلى التنزل، فالإِجماعُ مُنْعقدٌ على أن الإِيمانَ بالله تعالى مع عدم الإِيمان بالرسول لا يصح، والسحرةُ تعرَّضوا في إيمانهم للإِيمان بموسى عليه السلام، بقولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)} [الأعراف: ١٢١ - ١٢٢] ويرشِدك إلى بعضِ ذلك قوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} ... إلخ [يونس: ٩١]، مع أنه لا يخفى أنه لو صحَّ إيمانه وإسلامه، لكان الأَنسَب بمقام الفضلِ الذي طمح إليه نَظَرُ الشيخ الأكبر، أن يقال له: آلان نقبلُك ونكرمك، لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ... إلخ. "روح المعاني" ملخصًا مع تغيير. ثم إنَّ الشيخ الألوسي قد أجاب عن كل ما ذكره الشيخ الأكبر في ذلك، مَنْ شاء فليراجع تفسيرَه.
(١) واستدل بعضُهم بالآيةِ على أن الدعاءَ على شَخْص بالكُفْر لا يُعَدّ كُفْرًا إذا لم يكن على وَجْه الاستحسان للكفر، بل كان على وَجْه التمني لِينتقمَ اللهُ تعالى من ذلك الشخص، ويشدّد الانتقام، وإلى هذا ذهب شيخ الإِسلام خواهر زاده. فقولُهم: الرِّضا بِكُفْر الغير كُفْرٌ، ليس على إطلاقه عنده، بل هو مقيدٌ بما إذا كان على وَجْه الاستحسان، لكن قال صاحب "الذخيرة": قد عثرنا على روايةٍ عن أبي حنيفةَ أن الرِّضا بِكُفْر الغيرِ كُفْر، من غير تفصيل، والمنقول عن عَلَم الهُدى أبي منصور الماتريدي التفصيل، ففي المسألة اختلاف: قيل: والمعوّل عليه أنَّ الرضا بالكُفْر من حيث إِنه كُفْر كُفْر، وأن الرِّضا به لا من هذه الحيثيةِ، بل من حيثُ كونه سببًا للعذاب الأليم، أو كونه أثرًا من آثار قضاءِ الله وقَدَرِه مثلًا، ليس بِكُفْر. ويؤَيِّدُه ما في الحديث الصحيح في فَتْح مكة: ان ابنَ أبي السَّرْح أتى به عثمانُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا رسولَ اللهِ بايعه، فكفَّ - صلى الله عليه وسلم - يده عن بَيْعتِه، ونظر إليه ثلاثَ =

<<  <  ج: ص:  >  >>