للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الخارج، بل محسوسٌ عند بَعْضِهم، فهكذا الحالُ في تَجسُّد الموتِ يومَ الحَشْر. أما وَجْه تمثُّلِهِ في صورة الكبش، فلعله لما قالوا: إنَّ للكَبْش مناسبةً بالموت، وللفرس من الحياة، ولذا صار الكَبْشُ فِدْيةً للموت، فَيُذْبح عنه، كما ذُبِح عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام، أو لكون أكثرَ ذبائهم هو الكبش.

ثُم إنَّ في ذَبْح الموت نداءً على الخلود، وعدمَ فناء الطائفتين أبدًا، لكنهم مع ذلك تَفَرَّقُوا في الجهنميين على سبعة أقوال: منها - وهو غيرُ مشهورِ - أنهم بعد أَحْقَاب يَعْلَمُها اللَّهُ تعالى يَنْعَدِمُون: قلتُ: لا أقول فيهم بالفَناء، ولا بالعدم، ولكن أعتقدُ فيهم بالاستثناء الذي ورد به القرآنُ، وهو قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (١)، أما إنه ماذا مِصْدَاقُه؟ فأَكِلُ عِلْمَه إلى الله تعالى، ولا أقول: إنَّه فِناءً أو غيره، فاعتقد بالخلودِ، كما نصَّ عليه القرآنُ، وأبوح بالاستثناء، كما باح به، ولا أُفسِّره، ولا أُفصِّله وأؤمن به على إيهامه، ما


(١) يقول العبد الضعيف: وقد اضْطَربتِ كَلماتهم في الاستثناء، فلم أر فيه شيئًا شافيًا بعد، إلَّا ما ذكره الشاه عبدُ القادر في "فوائده" حيث قال: إنَّ الله تعالى ذَكَر الاستثناء، لِيُعْلم أنَّ أَمْرهم لم يخرج عن المشيئة بعد، وإنْ سبق القَوْل فيهم بالخلود، وذلك لأنه أحال أمرهم ههنا على المشيئة، وقد عَلِمناها من القرآن، أنه قد سبقت بالخلودِ في حَقِّهم، فَنَبَّه على أنَّ خلودهم فيها لا يكون لخروجِ أَمْرهم من يد الله سبحانه، بل هم تحت المشيئة بعد، لو أراد أن يُخْرِجهم من النار لَفَعل، ولكنه قد أَخبرنا أنه قد شاء خلودهم فلا يخرجهم منها أبدًا: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: ٥٦]. ثُم رأيته في "روح المعاني" وهذا نَصّه:
قال الشيخ الأَلوسي: والأَوْجه أن يقال: إنَّ الاستثناء في المَوضِعين مبني على الفَرْض والتقدير، فمعنى {إِلَّا مَا شَاءَ} إن شاء، أي لو فرض أنَّ اللهَ تعالى شاء إخرَاجَهم من النار، أو الجنة في زمان، لكان مسْتَثنى من مُدَّة خلودهم، لكن ذلك لا يَقَع لدلالةِ القواطع على عَدَم وقوعه. اهـ "روح المعاني". ثم قال: ولعلَّ النكتةَ في هذا الاستثناء - على ما قيل - إرشادُ العباد إلى تفويضِ الأمور إليه جَل شَأنُه، وإعلامهم بأنها منوطةً بمشيئته جلَّ وعلا، يَفْعَل ما يشاء، ويحكم ما يريدُ. وذكر بَعْضُ الأفاضل أنَّ فائدته دَفْعُ توهُّم كَوْن الخلود أمرًا واجبًا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نَقضُه، كما ذهب إليه المعتزلةُ، حيث أخبر به جلَّ وعلا، مؤكدًا. اهـ ملخصًا.
وقد كان عالمانِ - من علماء روسيا - جاءا إلى حَضْرةِ الشيخ، وسألاه عن تلك الآيةِ، ما الوَجْهُ فيها؟ فأجاب الشيخ - وأنا أسمع، كما ذكرت في الصُّلْب - وقال: لم أكن أُحِبَّ أن تسألاني عن وَجهها، وإذ قد سألتماني عنها، فاسمعا: إني أعتقد بالخلودِ فيهم، على مذهب الجمهور، وأعتقد بالاستثناء كما نَطَق به النص، ولا أفسره، ولا أعين مِصدَاقَه. فسبحان الله ما أَحْكَم مَدارِكَه، فلما سَمِعت من جوابِه تحيَّزت من علومه، وديانته، ولم يكن أوَّل أعجوبة رأيتُ منه، بَرّد الله تعالى مضجعه، وَرَفَعَه في أعلى علِّيين. فإن قلت: ماذا يكون مِصداقُ الاستثناء، بناء على مختار الشيخ؟ قلتُ: إنْ كُنت لا بد سائلًا عنه، فاسمع، إنه كما ذكره العلامة الأَلوسي عن بعضهم: إنَّ الاستثناء من الضمير المتقدم، إلَّا أنَّ الحُكْم الخلودُ في عذاب النار، وكذا يقال فيما بعد: إنَّ الحُكْم فيهِ الخلودُ في نعيم الجنة، وأهلُ النار ينقلبون منها إلى الزَّمْهَرِير، وغيره من العذاب أحيانًا، وكذلك أهلُ الجَنَّة ينعمون بما هو أعلى منها، كالاتصال بجناب القُدْس، والفوز برضوان الله تعالى، الذي هو أكبر، وما يتفضل به عليهم، سوى ثوابِ الجَنَّة، مما لا يعرِف كُنْهه إلَّا هو سبحانه وتعالى. وقد ردّه الطِّيبي، كما بَسَطه فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>